الرواية الفلسطينية بين غربة المكان وضياع الهوية
الرواية الفلسطينية بين غربة المكان وضياع الهوية
إنجاز: د الغزيوي أبو علي
دة بن المداني ليلة
إذا كان كل فكر وليد واقعه ومساهم في تأطيره، فإن الروائي يصنع لنا عالما غير العالم الذي نعيشه، عالم يكتنفه الغموض والإبهام لذا يقول هلورنس في هذا المقام: <<إن الرواية هي الكتاب الوحيد المضيء على الحياة، إنها تساعدك على ألا تكون ميتا في الحياة، إنها توازنك ضد رياح الدمار التي تهب عليك من كل الاتجاهات>>، وانطلاقا من هذه القولة فالرواية هي فن شردي شمولي من حيث أنها تستطيع أن تضم العديد من القضايا الإنسانية، لذا فهي الجنس الذي يستدعي المثاقفة والمساءلة قصد بناء رؤية كونية، وهذا لا يتأتى إلا عبر بعدين: بعد ماضوي تراثي، وبعد غربي حداثي، وعبر هذين البعدين نستنتج أن التأثير والتأثر واضح في الرواية وعليها جاءت الرؤية موزعة بين الأسلوب التراثي، والتقنية الحداثية، إلا أن هذا التطور حاول أن يتجاوز كل التقنيات التي ألفناها على يد جرجي زيدان وجبران، والريحاني ونعيمة وحسين هيكل وغيرهم من الروائيين ويقول حيدر حيدر في هذا الصدد متأثرا برواية زينب التي هي العتبة الأولى في الجنس الروائي العربي إلى جانب رومانسيتها المفرطة وسذاجتها وامتلائها بالرسائل والمواقف المركزية المفتعلة، والتدخل المباشر، والأخلاقية الريفية الهشة، تختار كل المقومات المركزية لرواية ما يمكن تسميته برواية عصر النهضة، وهذا الطرح النقدي حسب الناقد حيدر جعله يدرك عدة هفواه في هذه الكتابة النهضوية منها الوصف الخارجي للطبيعة، وللشخصيات والأمكنة والأزمنة، وكذا الاهتمام بالبعد الأخلاقي، وطغيان السرد، والحوار المتعاقب كل ذلك حسب الناقد حسب الناقد جعل هذا الجنس يحاكي الواقع دون نقده ولا تفسيره ولا يتقن الروائي إلا الثرثرة والتفريغ والانجذاب هنا يطال عقم التفكير وفراغ الوعي السياسي والاجتماعي، فغياب التحليل والنقد جعل كما قلت الروائي النهضوي يستمد أدواته من الشعر ومن المقامات والسير الشعبية مما أدى بأحداثه الروائية تصل إلينا في الحدود المشرعة للعين والأذن واللمس، لكن أبدا لا يصلنا ذوي الأعماق ولا خصوبة الجذور أو لمعان الينابيع، فإذا كان الروائي الكلاسيكي يكثر من الويل والعويل ويغالي في الأحداث والوقائع السطحية مما يؤثر على القارئ البسيط، نظرا لما يقدم له من إيحاءات وأشياء واقعية دون الخوض في تعريتها ولا محاكمتها رمزيا أو أسطوريا، أو سميائيا أو بنيويا وسوسيولوجيا ويقول حيدر حيدر إن تشيخوف يدعو دوما إلى أن يروى الروائي لنا الحدث بعيدا عن المغالاة والتدخل الذاتي وشحن الحواس بالمباشر، فالرؤية التشيخوفية تقربنا إلى التراسل الحواس وإلى الذاتية التي لازالت مثار النقاش بين الباحثين والنقاد، فهناك من يقر بالموضوعية، والآخر يقر بالذاتية، وهذا الصراع بين ما هو ذاتي سيجعل التفكير يختلف باختلاف التوظيف والممارسة، لأن العالم الروائي لا يتعامل مع الأشياء بطريقة تراسلية وحدها بل يوظف الخيال لكي تتخذ بعد إيحائيا ورمزيا بواسطة لغة إبداعية مرتبطة بالحلم واللاواعي والأنتربولوجيا، فتأخذ الرواية طقسا جديدا تجعل الفعل الإبداعي حلما عضويا في إنارة اللاواعي الإنساني، فيكشف لنا عن رغباته المكبوتة سواء الفردية أو الجماعية، فالروائي يهدف إلى بناء ما بعد الواقعية، لأن هذا الجنس لا يقتصر على البعد المثالي كما يرى جورج لوكاتش “الرواية ملحمة بورجوازية”، وهذا الطرح نجده في عالمنا العربي وخاصة المغربي عند عبد الكريم غلاب في روايته “المعلم علي” و عبد المجيد بن جلون في “في الطفولة” وعند محمد القرى، ولكن مع التحولات الاجتماعية ظهرت فئة التي استنشقت الفكر الاشتراكي بكل مقوماته الفنية والجمالية فعملوا على تكسير الأقاليم الكلاسيكية وحولوا الأزمنة والشخصيات، وجعلوا الذات هي المركز والجوهر في كل كتابة مغايرة، واتخذت هذه الكتابة بعدا جديدا يغاير اللغة والمجتمع، لأن اللغة ذاتية، والمجتمع مؤدلج يحارب الحرية، بينما الروائي يبحث عن هذا المفقود في المتخيل لكي يؤسس لهذه الذات وجودها التاريخي بلغة شاعرية وهذا ما نجده عهد هاني الراهب وضع الله ابراهيم وجبرا، ورشيد بوجدرة فهؤلاء وضعوا أقلامهم وأقدامهم على أبواب الحداثة في المستوين التقني والمعرفي لكي يحازنوا مع العالم الممكن كما يرى لوسيان كولدمان، فالرواية هي التي تصنع الإنسان وتبني عبقريته وتواجه المجهول والمكبوت، والاغتراب الروحاني وكل مظاهر الشقاء وشبح الموت ويقول عبد الرحمن منيف: <<ستكون الرواية تاريخ من لا تاريخ لهم تاريخ الفقراء والمسحوقين والذين يحلمون، وسوف تتكلم أيضا وبجرأة عن الطغاة الذين باعوا أوطانهم وشعوبهم وتفضح الجلادين القتلة والسماسرة والمخربة نفوسهم>>، فالروائي العربي لا يقف عند عتبة الواقع بل يخلخل كل المكونات التي تحجب الحقيقة لتجعل الإنسان مقياس كل شيء، فهو الذي يغير العالم ولا ينصره وهذا ما نجده عند محمد الزفزاف، ومحمد شكري، ونجيب محفوظ والطاهر الوطار، وخناتة بنونة، وعبد العروي، وغيرهم، فهذه الثلة حاولت أن تستقرئ التاريخ المؤدلج والفوقي لتعرف مصير الطبقة الفقيرة الغارقة في البؤس والشقاء والجهل المقدس، فإذا أخذنا محمد شكري الذي ثور الجهل والإيديولوجيا الدينية، ونور الطريق أمام المهمش لكي يحول فكره وأحلامه إلى المركز، وإلى أفعال حياتية، وزعزع اليقين المؤسساتي الذي ساد فترة طويلة، فهو بمثابة مصلح اجتماعي يريد أن يغاير المألوف لكي ينوجد في هذا الوجود المتناقض.
وليجعل هذا الواقع جوهرا أمام القوى الطاغية كما عند محمد الزفزاف ومحمد التاري، وعبد الله العروي، إنها إذن نقطة تحول في سجل الكتابة السردية المعاصرة سواء من حيث الكشف عن واقعنا السياسي والاقتصادي والعسكري والإيديولوجي، إن الرواية هي السؤال الوجودي المحفوف بالمخاطر، والدهشة التي تولد من المفاجآت، وتلاحق مشاهد السوق المجتمعي وانهيار الوضوحات ويقينياتها والهويات وأشكالها المثبرجزة، إذن فهذا الجنس النثري تحدى هذا الصمت المكبل ليكتب عن تطلعات هذه المجتمعات البئيسة والمغلوبة عن أمرها، كل هذا من أجل تجاوز التجربة المريرة التي نعيشها في وطن الغربة قصد تغييره واستشراف أفاق جديد.
إن حرب فلسطين أنتج ألوانا من الآداب، وغير وجه الإنسان العربي، وطوى رؤية المثقف المؤلج، وأبدع لنا أسئلة جوانية لتكون فاجعة في جبين المثقف وفي دواوين المؤرخين المرتزقين وكل من يتغى بالقومية وبالهوية، لأن الحجرة والبندقية العربية خلخلت الجغرافية والتاريخ والثقافة العربية وأبدعت الهزيمة لتكون الوجه الحقيقي لما هي عليه الأنظمة الأوليغارشية، لذا فحرب فلسطين جاءت بمؤشرات التجاوز وتعميق الرؤية من خلال أشكال تضرب في أعماق الذات الفردية والجماعية وتحقق التعرية اللازمة عبر الفضح والاحتجاج وإبراز إشكالية القوة الشعبية المحتبسة في زنازن الخوف والسلطة والوصايا الأبوية، وانطلاقا من قولة محمد برادة فإننا واجدون هذه الحرب أبدعت لنا أوجها قادرة على تبعثر كل اليقينيات التي ألفناها في المدارس والمعاهد والجامعات، وألغت كل الثنائيات التي تعلمناها ما بعد الهزيمة 1948، (الواقعية والوجودية، والقومية، والصراع الطبقي والديكتاتورية وكل القناعات التي سادت قبل الهزيمة وما بعدها، حيث أن الإنسان الفلسطيني أعلن بالتصدي أمام القوى الإمبريالية لكي يزرع الصدق والإيمان بالهوية وبالأرضي، وليمحو الخوف والانصياع، فوقف كمعادل فني أماما الحرائق والصدمة الإنسانية التي يغيبها التاريخ المتواطئ، والإنسان المتكالب والمنحرف دون معرفة دوافع الإنسان ورغباته السوية من النور والإيقاع الجديد، فالفلسطيني يحارب الأقزام والمشوهين ولا يعرفون إلا أن يصوتوا رخيصين وإذن فالحرب ضد الصهيون ولدت الجرأة لدى الإنسان الفلسطيني في استخدام تقنيات إبداعية جديدة مثل الرسومات والكتابة على الجدران، والنحت، والرقص والشعر، والرواية والمسرح، حيث استحضر التاريخ المقصي والشخصيات والحرية المقموعة والأبعاد الزمكانية بلغة تقربنا إلى تجربة جبرا ابراهيم جبرا التي تحاول الإيهام بتنوعها وتعددها الصوتي كما في رواية “صراخ في ليل طويل”، والسفينة البحث عن وليد مسعود، و”صيادون في شارع ضيق” كلها تقدم لنا النضال الفلسطيني في شكل حبكة فنية وبتعددية صوتية وبأسلبة لتكسر منظورات العالم، وهذا البناء الموثولوجي الداخلي المنبعث من التاريخ والتراث حاول اميل حبيبي في المتشاتل، أن يعمل على إظهار براعته النظمية والشعرية التي تنم عن قوة توظيفية تراثية أكثر ما تنم عن قوة محاكاتية، فالروائي أدمج شخصية سعيد أبي النحس برؤية وبسرد يكشف عن طبيعة ولائها لتكشف عن ذاتيتها في وطن يعيش أهله الفقر والذل والهوان وهذا ما نراه في أخطية، وسرايا بنت الغول، حيث يستمد أدواته ومفاهيمه من ألف ليلة وليلة، ومن التاريخ والسير والهوامش التي تضيء لنا هذا المتن الحكائي السردي لكي يكلم الإنسان الكوني دون روابط تذكر ودون نظام سلطوي والأفضل مزعجة وأخيرا أن لا يكون لها زمن، وهذا ما نجده في الشرق المتوسط والأشجار واغتيال مرزوق لعبد الرحمن منيف، فباب الهزيمة هو الهدف لإعادة الإبداع الذاتي العربي من أجل بناء رواية صادقة تساهم في رصد الواقع وصياغة المستقبل، لأن الكتابة هي عنف وموقف واكتشاف عالم جديد، وإبراز الرؤية الجديدة في غياب الديمقراطية وغياب الحرية وسيادة النفي والاغتراب والقهر، ويقول غالب طعمة فرمان: <<إن قدرة الإنسان على المشاركة وعلى التعبير وعلى أن يكون آمنا على حياته ومستقبله وأن تتاح له فرص العمل والتنقل هذه الحريات البسيطة التي يمارسها كل إنسان في العالم بنسب متفاوتة>>، فالروائي الفلسطيني عرف كيف يبدع هذا التنوع المبني على الأدوات والتقنيات لأشكال هذا الجنس، واستطاع أن يرسم لنا هذا الاستعمار كما في رجال في الشمس لغسان كنفاني، وما تبقى لكم، أما سحر خليفة في رواياتها المعنونة الصبار، وعباد الشمس فهذه الروائية تطرح قضية الثورة المنبثقة من الأرض وليس من السماء، ودور المرأة في هذه الثورة، رغم حصارها وسلب حقوقها، لهذا تحاول أن تصارع الاحتلال وهذا ما تذكره في رواية “باب الساحة” وفي لم تعد جواري لكم، فالروائية وظفت العديد من الأصوات والأزمنة والأمكنة، والجسد الأنثوي، وكل التكيفات التي لا تسيج الممكن، بل تقرب لنا المعطى المصطنع كبعد نسوي، لذا تطمح الكاتبة سحر إلى بناء الدلالة لهذا العالم الممكن، لأن نصوصها تخضع لشبكة معقدة من العلاقات المضمرة والظاهرة، وهذا ما يجعلني أنظر إلى الدلالة بوصفها سيرورة تداولية، يتحكم فيها محفل الإنتاج التراثي الفلسطيني، وأيضا محفل الثقلي الممكن، ذلك أن الرواية وإن كانت تبطن رؤية للعالم والإنسان وتتقاطع مع الإيديولوجيا والوطن، فإنها أرادت تشكيل العوالم وفق قوانين اللغة والأسلبة، لأنها تقع في أرضية متراكبة يتقاطع فيها العجائبي والواقعي، وتأخذ الذات كينونتها سرديتها خارج كل مفارقة وجودية التي يسعى الجسد الأنثوي إلى حلها، أما إذا أخذنا الروائي غسان زقطان في روايته وصف الماضي برؤية سردية لتخترق هذا الماضي الذي يوجد على خريطة تتصارع فيه الحكايات والمرويات كملكات فردية تتبادل الحوار لتجعل الذوات ذواتنا، فهذه الرواية هي بمثابة نموذج معرفي الذي يحاول وضع بعض، أسس لكتابة جديدة وتشييدات تقترن بأنواع من الروايات التي تطورت بتطور أنساق الفهم والتأويل، فالشخصيات لا تتعدى النظر والسمع والحوار وهذا ما يؤكده في الرواية وخاصة الفصل الثالث: <<في السنوات الأخيرة لم أعد أنظر في وجهه، كنت أعرفه وأراه وأردده مثل سورة الفاتحة…>>، فغسان زقطان يغاير بعض الكتابات الفلسطينية لأنه يرسم مقذوفة في فخ أقدار غيبيه، وتتشخص هذه الرواية جمالية المتخيل الفلسطيني، فصورة الماضي في هولة تبدو مشابهة ومتناصة مع هول ورعب حرب غزة، فدراسة دلالة الرواية الفلسطينية في إطار هذا المقترح المعرفي ليس بالأمر السهل، ذلك أنها تستدعي الشخصيات والموضوع والذات والزمكان، واللغة، والسرد والحوار والوصف والأسلوب، والرهان، كلها طرق اكتساب الدلالة الثورية وإواليات اشتغال الفكر والنقد، مما يجعلها تنفتح على الواقع المدمر والمنكسر وتخترق الحدود بين الاتجاهات، ويوضع هذا الامتداد الأنطولوجي الوضع المتداخل لهذه الثورة التي تحتاج إلى بذل مجهودات إبداعية سردية مضاعفة للتمكن من أدوات الكتابة بجانب الحجر والبندقية، لأن حافزنا الكامن وراء هذا الرهان الإبداعي هو حاجتنا إلى مراجعة كلية لذواتنا، وإلى كشف الأنساق المعرفية والدلالية لفكرنا ولثقافتنا، بحيث يتحول إلى نمط إبستيمي جديد يشارك فيها الإنسان الفلسطيني وليس الإمبريالي الهمجي، تهدف من وراء كل هذا إلى إبراز الوعي الثوري الجديد الذي ينقل لنا تجربة معاشة للكشف عن إمكانية الكتابة الروائية المعاصرة باعتبارها اشتغالا على المتخيل والخيال واللغة والجسد، لأن الروائي الفلسطيني يحس أن يعيش وسط عالم إشكالي متحول، أنه مصدر قلق يحاصر هويته وآدميته وحريته، وهذا ما أكده سليم بركات في حوار معه بمجلة تافوكت – ألمانيا – العدد2- 1977 ص18، بأن الرواية إشكال والحياة إشكال والأمل إشكال كاليأس، والحضور والغياب إشكالات، لذلك حرص الروائي الفلسطيني بتدمير أي صورة جاهزة، لكي يؤسس لنفسه الواقع المركب ليكون صياغة ذاتية وصياغة تاريخية، ومن ثمة تتحدد مهمته في كشف الدور السيزيقي هي صياغة أنساق الفهم الوجودي وإنتاج المعرفة بالذات والمحيط كما يقول محمد بوعزة في كتابه هيرمينوطيقا المحكي ص20، وهذا ما نراه في رواية (شبابيك زينب)، حيث اعتمد الروائي على عنصر التوثيق المأخوذة من التقارير التي تصدرها المجلات والصحف ووكالات الأنباء الرسمية والغير الرسمية مع ذكر أسماء الشهداء الذين سقطوا في مدينة نابلس، لذا نرى أن هذا النبش يقربنا من ميشيل فوكو الذي اعتمد على الوثائق من أجل إخراج الحقيقة الغائبة، فرشاد أبو شادر في شبابيك زينب لم يركز على الشخصيات كذوات فاعلية في الحوار الاجتماعي، بل قدم لنا وصفا كرونولوجيا تتفاعل فيه الأحداث لكي يتأسس هذا النص ولينتج أدبيته وأفق انتظاره فالروائي أبو شادر في مقاربته الفنية مكنتنا من ملامسة الأنساق الدلالية والمعرفية لهذا الجنس المدون كقيمة وكنسق مفاهيمي يحدد صور المجتمع الفلسطيني، واستنادا إلى هذه المعادلة التي تربط بين السردية بالانتفاضة جعلت الحبكة الفنية والتكثيف، والأحداث تتحول إلى تجارب إنسانية بطريقة رمزية تمثل ما لا يكون قابلا للوصف في اللغة كما يرى الباحث محمد بوعزة في كتابه المذكور ص41، أما إذا أخذنا الروائي المبدع فاروق الوادي فإننا واجدون أن روايته تطرح قضية الحياة والفناء وذلك بطرائق استنباطية وإن تعددت وتنوعت إلى استقراء أو تمثيل، وأن الذات دعت للوقوف على باب الكينونة وذلك لارتباطها بالسؤال المتفلسف ارتباطا أعمق وأشمل وأعظم إلتاجما بصميم الذات ومن هنا يكون انزياح السؤال أو منعه أو استبعاده قد يساوي منع الوجود عن تحقيق وجوده كما يرى مطاع صفدي في كتابه نقد العقل العربي – الحداثة وما بعد الحداثة- ص20، فالروائي فاروق وإلياس خوري في روايته باب الشمس والمرحومة رضوى عاشور في روايتها الطنطورية، وغسان كنفاني، ويحيى يخلف، ومحمود شقير وحسن حميد المقيم في سوريا وغيرهم من المبدعين الروائيين الذين حفروا عن معنى الوجود للكشف عن مميزات هذا الوجود التاريخي منذ بداية التاريخ إلى نهاية الحرب العالمية II، فهذه الأسئلة المضمرة متضمنة الوجود المحض كما حددها هيدجر كما يتضمن الكائن الواقعي أو الوجود المشخص والماهوي كما يرى جميل صليبا في المعجم الفلسفي مط قم جII ص560، إذن فالرواية الفلسطينية تجاوزت المحن والانكسار الرومانسي والواقعي، فانخرطت في التجريب كامتداد الذي يشكل حقيقة موضوعات العالم الداخلي، لأنه المصدر التي تصدر عن أشياء الموجودة بذاتها في الخارج كما يرى علي أبو ريان في كتابه تاريخ الفكر الفلسفي – القاهرة ط1 1969 ص103، فهذا التأكيد الكينوني للذات الفلسطينية هو امتثال للأصل في كل قول بالوجود هو الفكرة أو الشعور كما يرى عبد الرحمن بدوي في كتابه شوبنهاور – القاهرة ط3 1965 ص73، فالأصالة هي التي تحيا في وجودنا وليس الظواهر، فالوجود الفلسطيني هو عبارة عن ذات مرتبطة ارتباطا أوليا وجوهريا بحقيقة خارجية وهي العالم، وليس ثمة انفصال بين الهوية والإنسان والأرض والدين، ما دامت الكينونة البشرية منفتحة منذ البدء على العالم كما يرى حسن مجيد في كتابه “من الآخر إلى الذات” ص44، إذن تمثل هذه الرؤية السردية إشكالا إجناسيا تجعل الهوية النصية كنصوص متنوعة ومتغيرة في جل مرجعياتها وفي سماتها التركيبية والجمالية والفنية لتذوب الحدود في هذا العالم الروائي بين الشخصيات والأزمنة والأمكنة والتيمات دون تقاطع في أبنيتها النسقية، بل تترحل فيها الشخصيات خالقة عتبات أزمة وإشكال على مستوى الهوية والذات والحرية والحياة والموت، والغربة والضياع.
إن الرواية الفلسطينية اليوم تحاول أن تعيد تأصيلها الوجودي انطلاقا من الأسئلة التي تبدعها المقاومة، ما دام العالم ليس موضوعا واحدا ووحيدا، بل نقيم فيه دوما وليس موضوعا لنا، ولا يملكنا المحتل، بل نحن الذي نملكه، ونتكلم بلغته ما دامت حقيقة هذا العالم المصنوع والمبهم لا يستطيع أن يفسر ذاته بذاته، ولكن الفلسطيني قادر على التغيير من دون تحديد أو وصاية خارجية كما يفعل المحتل وهذا التغيير ما يأخذه الفلسطيني عبر الشعر والرواية والكتابة والرسم والغناء والبندقية، لأن كونه لا يتأسس على الانشقاق بين الذات وبين كينونة الكائن فيه وخاصة عندما تتجلى كحظور كما يرى هيدجر في كتابه التقنية – الحقيقة بالوجود – تر عبد الهادي مفتاح ومحمد سبيلا ط1 1995 ص305، إذن فالرواية الفلسطينية تندرج كإشكالية ضمن الإشكاليات أعم وأشمل تهم العلاقات بين الأفراد والمجتمعات وأشكال أخرى تحققها وتنظمها، فقد أثبتت هذه الرواية أن الشعب الفلسطيني واحد موحد رغم الانشتات الحزبية والطائفية فهي تستمد موادها من هذا النسق الاجتماعي ومن العلاقات المتراضة في البنية الأرضية والجغرافية، وهذا يعني أن هذا الطابع التجريب يجعل الإنسان وهمومه أفضل التيمات المعروضة في هذا العالم السردي، ومن الطبيعي أن هذه الرؤيا الدلالية للرواية تتشابك مع المفاهيم السردية الأخرى، مما يعطي لها تصورا معرفيا مشتركا قد يصل إلى حد التباين والتناقض في التوظيف الفني والدرامي، فالرواية إذن تفرض الحداثة على أنها وحدة مشعة ومتجانسة عالمي ووطنيا، انطلاقا من التقنيات الغربية، وبالتالي يصبح مفهوم الوطن والإنسان والهوية ذا طابع حداثي وحضاري يحيل على الوقائع وعلى الحدث السوسيولوجي، إذن تزرع في بطونها جذرية التحول والتمرد بمختلف قطاعاته دون أن يعني ذلك القول بالتزامن في التحول البنيوي، وعليه يجوز الحديث عن الرواية الحداثية والفكرية والاجتماعية والسياسية، مما يجعل الحديث عنها يطرح إشكالا ليس فقط على مستوى تحديد المصطلح الفني، وإنما أيضا مرجعيته زمكانيا ورمزيا ودراميا، وجماليا، إنها مشروع تغييري هادف تهدف إلى صد المعتقدات السالبة التي ألفناها على أساس فرضيات التجاوز والتخطي ومرتكزة على محورين، الكتابة والثورة ويرى جان بودريار <<إن الحداثة ليست فحسب واقع الانقلابات النفسية والعلمية والسياسية منذ القرن السادس عشر، بل هي أيضا صراع العادات والثقافات والتغيرات على مستوى البنية والطقوس>> (الحداثة – الموسوعية 1998 ص424)، ومهما يكن من أمر فالرواية الفلسطينية اليوم أمام الحصار والجوع والقتل والدمار تحاول أن تنقلنا من منظومة الانصياع كما صنع في العصور الوسطى إلى الحداثة الحاملة لشعار – الإنسان والحياة والوطن والتقدم والعقلانية وكل مرتكزات الإنسانية بما يجعل سلطة الإبداع هي الذات المفكرة التي بمقتضى ذلك تنمو على حساب المعطى الموضوعي كما يرى عبد الله المعقول في كتابه “الحداثة وسلطة النموذج” – دراسات مغربية ع9 – 1999 ص31.
خلاصة:
فالتفاعل مع القوى المادية والاجتماعية في علاقة جدلية متبادلة، قاعدتها المركزية دائما وأبدا هي الشروط المادية والاجتماعية فالأدب هو تعبير ذاتي يستمد مادته الأولية من العالم الخارجي، مما يجعل هذه الذات كيانا مفتوحا قابلا للاستعاب والتأويل كما يرى لينين وجورج بليخانوف وجورج لوكاتش، لأن هذا الفن التعبيري الذاتي لا يعتمد اللغة المعيارية، بل يعتمد الإيحاء لكي يوحد بين الفكر والشعور كما يرى جون لوك، لأن الروائي يخلق عالما مستقلا عن تجاربه العادية، وذلك بلغة مثالية تنزع إلى الثورة، لغة تبتعد عن المنطق لترتبط بالمستقبل ولتثير فنيا الدهشة، لذا أصبحت الكلمة غير مرتبطة بالمعجم اليومي، بل تبدع حوارا داخليا مع الذات، ومع الكون والإنسان والأشياء، وهذا الحوار هو توسيع مدارك الصورة الفلسطينية لتكون نورا يهتدي به العالم المعاصر، وذلك من أجل اتخاذ الموقف من المحتل الصهيوني.