طبيح: الحكومة تعيد الحياة لـ “كل ما من شأنه” وتخرق الدستور مرة ثانية
عبد الكبير طبيح/ محامي
اختتم رئيس مجلس النواب جلسة 23/07/2024 التي صادق فيها هذا المجلس على مشروع قانون المسطرة المدنية, بكلمة وجهها للسادة النواب الذين حضروا تلك الجلسة إذ قال فيها ” لقد صنعتم التاريخ”.
بالفعل لقد تم صنع التاريخ:
بتصويت مجلس النواب على مادة لم تعرض لا على مكتب المجلس ولا على لجنة العدل.
بالتصويت على مقتضيات تخرق الدستور. وتخالف القوانين التنظيمية. وتتعارض مع قوانين سارية المفعول.
ويتعلق الامر بمصادقة مجلس النواب على مادة تحت تحمل رقم 17 تتضمن مقتضيات تشريعية لم تعرض لا على مكتب مجلس النواب ولا على لجنة العدل والتشريع.
من المعلوم ان مقتضيات المادة 17 التي تضمنها مشروع قانون المسطرة المدنية والذي قدم لمكتب مجلس النواب وعرض ونوقش أمام لجنة العدل والتشريع, قررت هذه اللجنة بجميع اغضائها معارضة وأغلبية وحكومة حذف مقتضياتها من مشروع القانون.
وللتذكير فمشروع قانون المسطرة المدنية تضمن في المادة 17 منه مقتضيات اعطت للنيابة العامة الحق في ان تطلب التصريح ببطلان أي مقرر قضائي أي قضية حتى ولو لم تكن طرفا فيها وبدون التقيد بأي أجل.
وبعد الانتقاد القوي الذي وجهت به تلك المادة بسب مخالفتها للدستور وللمبادئ الأولية للقانون وللمنطق العادي. قررت لجنة العدل والتشريع حذفها من ذلك المشروع.
والمثير ان الحكومة نفسها قبلت ووافقت على حذف مقتضيات المادة 17 في إجماع فريد جمع كل من المعارضة والاغلبية والحكومة.
وقرار لجنة العدل والتشريع هذا أدى الى إحالة مشروع قانون المسطرة المدنية على مجلس النواب بدون مقتضيات المادة 17. أي ان تلك المقتضيات لم يبق لها أي وجود لا فعلي ولا قانوني.
غير ان الجميع فوجئ بكون الحكومة تبعث برسالة الى رئيس مجلس النواب تحمل في موضوعها عبارة “تعديل للمادة 17 من قانون المسطرة المدنية”. مع ان المادة 17 لم تبق موجودة. وهو ما وعت به الحكومة.
وان أي مطلع على ما سمي ب ” تعديل للمادة 17″ سيلاحظ بدون عناء كبير بل وحتى بدون ان يكون متخصصا في عملية التشريع, ان رسالة الحكومة حملت الى الجلسة العامة مقتضيات جديدة لا بعلاقة لها بالمقتضيات التي كانت تنص عليها المادة 17 من المشروع. أي ليست تعديلا للمادة 17 الاصلية التي حذفت.
هذه المقتضيات الجديدة كتبت على الشكل التالي:
“يمكن للنيابة العامة المختصة وان لم تكن طرفا في الدعوى ودون التقييد بآجال الطعن “المنصوص عليها في المادة السابقة ان تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي “يكون من شأنه مخالفة النظام العام.
“يتم الطعن امام المحكمة المصدرة للقرار, بناء على امر كتابي يصدره الوكيل العام “للملك لدى محكمة النقض تلقائيا او بناء على إحالة من رئيس المنتدب للمجلس الاولى “للسلطة القضائية في حالة ثبوت خطأ جسيم اضر بحقوق احد الأطراف ضررا فادحا”
غير ان هذه المقتضيات الجديدة تثير الملاحظات التالية.
حول خرق الحكومة للدستور.
كما سبق لي ان كتبت في مقالات أخرى أو عبرت عليه في ندوات أخرى, ان الدستور لم يمنح لأي حكومة ورقة بيضاء تشرع في حقوق وأموال واعراض المواطنين كما تريد. كيف ما كانت عدد المقاعد التي تكون قد حصلت عنها في الانتخابات وانه لهذا السبب أوجب الدستور على الحكومة وعلى البرلمان الخضوع لمسطرة خاصة يجب احترامها لتقديم أي مشروع لمقتضى له طبيعة قانونية, سواء تعلق الامر بمشروع مقتضيات مكون من مآت المواد. او مشروع مقتضيات لمادة واحدة. إذ العبرة ليست بتعدد المواد بل العبرة بالمقتضيات التي تتضمنها المواد. وهي المواد التي تحمل رقما لترتيبها.
وهذه المسطرة لم ينص عليها لا في قانون عادي. ولا في نظام داخلي. ولا في قانون تنظيمي بل نص عليها في صلب الدستور.
هذه المسطرة الدستورية تلزم الحكومة بأن لا تعرض أي مقتضى قانوني على مجلس النواب مباشرة. وانما يجب عليها ان تعرضه أولا على مكتب المجلس. وذلك طبقا للفقرة الثانية من الفصل 78 من الدستور التي تنص على ما يلي:
“لرئيس الحكومة ولأعضاء البرلمان على السواء حق التقدم باقتراح القوانين.”
“تودع مشاريع القوانين بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب، غير أن مشاريع القوانين “المتعلقة، على وجه الخصوص، بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية، وبالقضايا الاجتماعية، “تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين.”
كما الزم الدستور الحكومة و البرلمان وبعد ان تحال مشاريع القوانين على مكتب المجلس, ألزمهم بأن تحال تلك المشاريع على اللجن. وذلك وفقا لأحكام الفصل 80 الذي ينص على ما يلي:
“تحال مشاريع ومقترحات القوانين لأجل النظر فيها على اللجان التي يستمر عملها خلال” “الفترات الفاصلة بين الدورات.”
غير انه بالرجوع الى مقتضيات الجديدة التي أعطت لها الحكومة رقم المادة 17. والتي صوت عليها مجلس النواب نجد انها:
لم تعرض على مكتب المجلس.
لم تعرض على لجنة العدل ولم تناقشها ولم تصوت عليها.
وانه لا يمكن ان يرد على الاخلال بكون مشروع المسطرة عرض على مكتب المجلس وعلى لجنة العدل. وذلك لسبب بسيط وهو ان لجنة العدل عندما عرضت عليها المادة 17 مع مشروع قانون المسطرة المدنية, وتداولت بشأنها قررت حذف مقتضيات المادة 17 من المشروع بإجماع أعضائها. أي معارضة واغلبية وكذا الحكومة.
وانه مما يؤكد ان الدستور يلزم بان يسلك كل تعديل لأي مقتضيات قانونية لنفس المسطرة المشار اليها أعلاه. واعتبار ان كل تعديل لم يعرض على اللجنة هو غير مقبول. هو ما ينص عليه الفصل 82 في الفقرة الأولى منه التي نصت على عدم إمكانية مناقشة أي تعديل لم يعرض على اللجنة اذ نصت تلك الفقرة على ما يل:
“لأعضاء مجلسي البرلمان وللحكومة حق التعديل. وللحكومة، بعد افتتاح المناقشة، أن تعارض “في بحث كل تعديل لم يعرض من قبل على اللجنة التي يعنيها الأمر.
وانه يتبين مما ينص عليه الدستور في فصوله 78و80 و82 انه لا يسمح بأي عرض لأي مشروع قانوني لأول مرة امام المجلس. بدون ان يعرض مسبقا على مكتب مجلس النواب. ويعرض بعد ذلك على اللجنة المختصة.
وان الحكومة عندما احضرت لمجلس النواب يوم 23/07/2024 مقتضى قانوني سمته تعديل على المادة 17 وهو المقتضى الذي لم يعرض لا على مكتب المجلس ولا على لجنة العدل و التشريع تكون قد خالفت للدستور في فصوله الثلاثة المشار اليها أعلاه.
علما ان الدستور عندما يتكلم على مشروع قانون فهو لا يهتم و لا يتوجه الى عدد فصوله. بل يهتم ويتوجه الى المقتضيات القانونية المنصوص عليها في تلك الفصول, سواء كانت تلك الفصول متعددة و فصلا واحدا. أي يتوجه ويهتم بالمقتضيات التي تنشئ الحقوق او تلك التي تمنعها. وقد تكون مكونة من 1000 مادة او من مادة واحدة. إذ العبرة ليست في العدد. بل العبرة في المضمون ذو الطابع التشريعي الذي سيلزم المواطن المغربي .
فمقتضيات المادة 17 الجديدة التي صوت عليها مجلس النواب يوم 23/07/2024 هي مقتضيات مخالفة للدستور لكونها لم تخضع للمسطرة الدستورية المتحدث عنها أعلاه.
حول العودة الى قانون كل ما من شأنه
من المثير حقا ان تستعمل الحكومة في صياغة المقتضيات القانونية في ظل دستور 2011 عبارات تذكر بزمن الجمر والرصاص التي طواها المغرب بشجاعة في تجربة غير مسبوقة قي العالم المجاور لبلدنا.
ذلك ان الحكومة استعملت في صياغة المادة 17 الجديدة عبارة ” يكون من شأنه مخالفة النظام العام”
مع ان الحكومة تعلم او يفترض فيها ان تعلم ان المغرب والمقاومة الوطنية لهم تاريخ أليم مع هذه العبارة أي عبارة (كل ما من شأنه) التي كان ينص عليها ظهير 1935 الذي سنه المستعمر للتنكيل بالمقاومة المغربية وبالمقاومة بصفة عامة بل واستعمل حتى في فترة الاستقلال.
وان الحكومة تعلم او من المفروض ان تعلم ان هذا الظهير ألغاه البرلمان الفترة ما بين 1993-1997 بموافقة صريحة من جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله. وذلك بعدما قدم الفريق الاشتراكي والفريق الاستقلالي بطلب من المجاهد الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي, مقترح قانون لإلغاء ظهير 1935. فأصدر جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله تحكيمه بين وزير العدل السابق الأستاذ الفاضل محمد مشيش العلمي الذي تبنى المقترح وبين وزير الداخلية الذي كان يعارض إلغاء ذلك الظهير.
وان الحكومة عندما تستعمل هذه العبارة في مادتها 17 الجديدة في ظل دستور 2011 الذي أعاد للمغاربة حقوقهم كاملة ورفع من القيمة الاعتبارية لهم وحصنهم من كل ما يمس بحقوقهم, فإن موقفها هذا يدعوا الى التوقف وانتظار تفسير منها على ما بادرت به.
حول صياغة المادة 17 الجديدة
ان كل قارئ للمادة 17 الجديدة التي صادق عليها مجلس النواب سيلاحظ انها تتكون من فقرتين مختلفتين ومخالفتين الدستور وللقوانين التنظيمية والقوانين العادية.
وبالفعل، فإن الفقرة الأولى من المادة 17 الجديدة تعطي للنيابة العامة الحق ان تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي من شأنه مخالفة النظام العام.
بينما الفقرة الثانية تتكلم على شيء اخر غير النظام العام, وهو ان النيابة العامة او رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية من حق كل منهما أن يطلب التصريح ببطلان حكم بسبب الخطأ الجسيم الذي ارتكبه القاضي.
وهكذا عندما أقول بان المادة 17 الجديدة والمقدمة للبرلمان ليست هي المادة 17 التي ناقشتها لجنة العدل وقررت حذفها. فإن ذك القول صحيح لأن المادة 17 الاصلية التي حذفتها لجنة العدل والتشريع لم تكن تنص على حق النيابة العامة في طلب بطلان مقرر قضائي بسبب الخطأ الجسيم الذي يرتكبه القاضي. ولم تكن تنص على من شانه ان يخالف النظام العام.
حول توسيع مجال تدخل النيابة العامة
يتبين من المادة 17 الجديدة ان حافظت على حق النيابة العامة في المطالبة بالتصريح ببطلان اي مقرر قضائي التي كانت تنص عليه المادة 17 الاصلية قبل حذفها من طرف لجنة العدل والتشريع.
لكن المادة 17 الجديد اضافت شيئا جديدا وهو ان حق النيابة العامة في التقدم بطلب التصريح ببطلان حكم لم يبق يقتصر على المقررات القضائية التي خالفت النظام العام بل منحت للنيابة العامة نفس الحق حتى بالنسبة للمقررات القضائية التي من شأنها ان تخالف النظام العام.
وان هذه الصيغة تفرض وضع السؤال حوال من هي الجهة التي ستتنبأ بكون مقرر قضائي سيخالف النظام العام مع انه:
قد يصدره قاضي فرد او 3 قضاة او غرفة او مجموع غرف محكمة النقض.
ان ذلك المقرر احدث مراكز قانونية لأطراف الدعوى ولكل المتدخلين الاخرين.
وهنا تصطدم المادة 17 الجديدة مع الشروط الأولى لصياغة قاعدة قانونية كما هي متعارف عليها دوليا.
كما صياغة المادة 17 الجديدة تتوجه للقاضي وتقول له ان الحكم الذي ستصدره قد يكون مقررا قضائيا من شأنه مخالفة النظام العام. وقد لا يكون من شأنه مخالفة النظام العام. أي ان النيابة العامة هي التي ستقرر فيما بعد ذلك.
حول الجهة المستند لها تحديد حالة النظام العام
بالرجوع الى المادة 17 الجديدة تبين منها انها أسندت هذه المهمة للنيابة العامة. لكنها أضافت لها “المختصة”. وهو ما يدفع الى تساؤل أول وهو: هل توجد نيابة عامة غير مختصة.
أما التساؤل الثاني هو ان صياغة المادة 17 لم تلزم النيابة العامة بالمطالبة بالتصريح ببطلان قرر من شأنه مخالفة النظام العام. بل اعطتها إمكانية في ذلك. أي إن ارادات ان تطلب التصريح ببطلان حكم من شأنه مخالفة النظام العام فلها ذلك. وان ارادت ان لا تقدم ذلك الطلب فلا أحد يلزمها به. حتى لو كان المقرر القضائي قد خالف النظام العام فعلا. مادام المادة 17 الجديدة بدأت بأول كلمة وهي “يمكن للنيابة العامة…”
الذي هم من عائلة المدعي نصت عليهم نفس المادة 79 في الفقرة الأولى منها.
بينما خصصت نفس المادة الفقرة الثانية لهذا الدخيل على المحكمة.
كما ان الفقرة الثانية من المادة 79 سهلت على أي كان وبدون أي تحديد او مواصفات ان يحضر للمحكمة ويدعى بانه ينوب على مدعي. ويقدم المقال باسمه ويحضر الجلسات ويرافع أمام المحكمة ولا يكون ملزما إلا بتصريح شفوي يدلى به امام المحكمة.
بينما المحامي يجب ان يتوفر على شهادات علمية. وان يجتاز الامتحان بنجاح. وان يقضي فترة للتمرين. وان لا يتجاوز سنه عمرا معينا. وان يلتزم بالضوابط المهنية وغيرها من الالتزامات.
الدخيل سنجده في كل المواد التي ينص عليها مشروع المسطرة المدنية.
لهذا اعيد طلب ضرورة تدخل رئيس الحكومة باعتباره رئيس الأغلبية لكي يتم إعادة حذف المادة 17 الجديدة كما حذفت لجنة العدل والتشريع المادة 17الاصلية. ويتم حذف ما يسمى بالوكيل لكون هذه الفكرة هي دخيلة على قانون المسطرة المدنية. ويتم حذف كل المواد التي تمنع المواطن من حقه في للولوج المستنير للعدالة. وتلك التي تمس مبدا المساواة بين المواطنين فيما بينهم. وبينمهم وبين الإدارة العمومية بجميع اشكالها.