مات الرجل الذي حذرنا طويلا من موت السياسة!
مات الرجل الذي نبهنا طويلا إلى موت السياسة، وظل يردد خوفه من حصول النهاية الحتمية، منذ أن أطلق صرخته هاته مع حكومة إدريس جطو في 2002 وسؤال المنهجية الديموقراطية وتفاقم الوضع بعدها!
ولعل ما يمكن أن يختاره من عرفه في أتون الفعل السياسي هو أن يظل وفيا لهذا الإنذار، وراعيا كليا لهذا الخوف بدون السقوط في «العدمية اللاشعورية «، التي قد تتولد لدى النخبة اليسارية، بدون قصد ولا وعي منهما، وبدون أن يمسَّنه رهاب حضور جنازة شيء لا مادي ( السياسة) لكنه يصنع كل ماديات المجتمع !
وعلى ذكر موت السياسة، لم يكن جمال يخفي قلقه من مآلات الفعل العمومي، ولعلي قد طارحته في موضوعة «إغلاق» الحقل السياسي في ما بعد انتخابات 8 شتنبر التي جاءت بالحكومة الحالية.
لم ننه النقاش، ولعل من الوفاء له أن…نواصله!
وأن نسأل بلسانه لما بعد الموت … post mortem : ألا نشهد، اليوم، قتل السياسة من طرف أبنائها، أي الأحزاب السياسية نفسها، في ما يشبه «الهاراكيري» الياباني، مع الحرص على إبقاء السعادة الطرية ظاهرة، وتزيين المأتم بابتسامات الصورة الحكومية !
والسياسة هنا بمعنى التواجد في مركز القرار والتأثير في حياة الناس وليس الوجود لتنشيط الحقل السياسي والنضال فيه لأجل منظومة قيم نبيلة فقط.
وتموت السياسة كذلك عندما تموت نماذجها النبيلة وتتوارى وجوهها النيرة، وعندما يساق « السياسيون» فرادى وزرافات إلى المحاكم والزنازين بفعل الفساد واللصوصية، وتختفي قيم الاقتراع العام لتفسح للحق العام مكانه في رسم مساراتهم..
وتموت السياسة عندما توجد أحزاب بدون وجود تنظيمي سياسي فعلي، اللهم إلا من وصل الإيداع لدى الوزارة الوصية، وبدون هيئة قيادة تتداول في ما يهم الشأن العام الذي تولت مهامه بفعل الاقتراع العام، لكنها تستطيع الوجود بدون ذلك، وتواصل الممارسة السياسية بدون الحد الأدنى من الوجود الحزبي الطبيعي.
لم يعد من النشاز أن توجد أحزاب في تدبير الفضاء العمومي، واتخاذ قرارات مصيرية، تهم ملايين المغاربة وتتطلب المهارة في الوصول إلى توافقات، وذلك كله باسم سياسة لم يتحقق منها الحد الأدنى التنظيمي، الذي يحقق شرط الوجود السياسي ويجعلها جديرة بالحديث من موقع السياسة.
الدستور جعل تمثيلية الأحزاب مصدر السلطة، كما أنه عرف وجودها بفعل القانون التنظيمي، وحدد طبيعة هذا الوجود وصيغه المقبولة، ومنها القدرة على اختيار القيادات لتدبير ما بعد المؤتمرات، وهنا نطرح السؤال: إلى أي حد تضمن الأغلبية هذا الشرط فعليا بما يضمن حياة السياسة ؟!
ولربما كان المرحوم سيضيف، تخمينا منا، أن من أعراض الاحتضار السياسي أن ذلك لا يشكل مادة للنقاش العمومي وفي التناول الإعلامي الحر والنزيه والناضج!!
هذه مفارقة جمال: وهو ميت ما زالت فكرته عن المواطنة تدافع عن …حياة السياسة!
ومن مفارقات جمال براوي المهنية، أنه اختار الكتابة باللغة الفرنسية التي تجعل قراءه من نخبة المجتمع، لكنه في الوقت ذاته استطاع أن يكون الصحافي الكاتب بالفرنسية الأكثر شهرة في أوساط القواعد الجماهيرية..لقدرته على خلق الجدل، وقدرته على استعمال الذكاء بما يخدم الشغف بالحياة العمومية…
جمال براوي، كان أهلا للتقدير، بدون الحاجة إلى قواميس المبالغة في التعبير عن الاحترام، ولم يكن في حاجة إلى التبخيس، كما لم يكن في حاجة إلى أن نتفق معه، لكي نقتسم معه قسطا جميلا من الحياة أو أن نحبه حتَّى..
لقد ربَّى جمال، بقدرة واستحقاق مهني وبذكاء فريد، القدرةَ على المغامرة، حيث غيَّر مساره المهني، من إطار بنكي، في زمن كانت المحافل البنكية تعتبر محاريب للسعادة المهنية والاستقرار المالي وبوابة لسحر النيوليبرالية في المعيش اليومي، بدون مثالبها.
ولعله اختار الشغف، عوضا عن النجاح المهني، فحصل عليهما معا…
ولم ينس الصرامة العلمية والتفكير الاقتصادي في ركوب تجربة الصحافة…
لا شك أنه وقف يتأمل، مرات عديدة، حطام السياسة، كما يراقب مستكشف يبحث عن المعادن، حطام سفينة حربية شبه سليمة! قبالة سواحل المعيش اليومي..
هذا المعيش اليومي الذي عاشه بحدَّيْه، وبطريقة مفرطة للغاية: حدُّ الدفاع عن ضحايا هذا المعيش من الضعفاء والبسطاء والطبقات الشعبية، التي سكنت مخيلته منذ تجربته التروستكية في محاولة تغيير العالم، وحدُّ الانغماس في الأماكن الأكثر موضوعية من المدنية، والمدينة معا، على حافة شعرية لا تُسمِّي نفسها، قريبة من الغيبوبة اللذيذة التي تمنحها الحياة لمن ترتاح له ويرتاح لها!
لم نكن دوما على الضفة نفسها، وعرفنا لحظات من الخلاف في تقدير الموقف في شؤون الحزب وشؤون الدولة، واليسار …إلخ… لكن كنا على الضفة نفسها من الوطن، وهو الأهم!