سعيد الكحل يكتب: خلفيات الانقلاب المذهبي للفقيه الريسوني
خلفيات الانقلاب المذهبي للفقيه الريسوني.
سعيد الكحل
كشف الموقف الأخير للفقيه الريسوني من الشيعة عموما، ومن إيران على وجه الخصوص، عن حقيقة هذا الشخص الذي اختار، تغيير قناعاته المذهبية كلما دعت مصلحته الشخصية ذلك. فبعد أن كان مالكي المذهب، أشعري العقيدة، اعتنق إيديولوجية التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين وعقائدها كما صاغها وأسس لها سيد قطب.
إذ انخرط في تأسيس جمعيات إسلاموية مثل “رابطة المستقبل الإسلامي بالمغرب” التي تولى رئاستها ما بين (1994-1996)، ثم حركة التوحيد والإصلاح التي وظفها في مواجهة مطالب الجمعيات النسائية والحقوقية من أجل مراجعة مدونة الأحوال الشخصية وإلغاء كل النصوص التي تكرس استغلال المرأة وقهرها ومصادرة حقوقها.
وهو بهذا الانعطاف سيتخلى عن العقيدة الأشعرية التي هي ثابت من ثوابت الشعب المغربي تحافظ له على وسطيته واعتداله، وتحصّنه ضد التعصب والتطرف والغلو. وهي العقيدة التي جعلت فقهاء المغرب لم يلجؤوا إلى تكفير المخالف أو التحريض على قتله، أو تكفير المجتمع.
الأمر الذي وفّر وحافظ على الأمن الروحي للمغاربة.
بيان تكفير الحداثيين.
إن تغيير الريسوني لعقائده من الأشعرية إلى القطبية/الوهابية سيتجسد أساسا، وبشكل خطير، في البيان الذي أصدره في فاتح يناير 2000 لمناهضة “مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية” الذي أعدَّه سعيد السعدي، كتاب الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة، في حكومة المرحوم عبد الرحمن اليوسفي.
فالبيان تكفير صريح للتيار الحداثي/ الديمقراطي ولكل الهيئات المطالبة بتعديل مدونة الأحوال الشخصية.
وقاد الريسوني، على رأس حركة التوحيد الإصلاح، إلى جانب حزب العدالة والتنمية، حملة شرسة كادت تهدد استقرار البلاد وتدفعها إلى المجهول لولا التدخل الملكي وإعلانه عن تشكيل لجنة ملكية لمراجعة المدونة.
ما يهم هنا هو اعتناق الريسوني لعقائد التكفير الوهابية والقطبية وتوظيفها في مواجهة مشروع إصلاح مدونة الأحوال الشخصية الذي يقر حقوق النساء. ذلك أن المذكرة التي قدمتها حركة التوحيد والإصلاح برئاسة الريسوني طالبت بإلغاء جميع حقوق النساء بما فيها تلك التي أقرتها مدونة الأحوال الشخصية نفسها، ومنها ولاية الثيب على نفسها في الزواج التي كان معمولا بها.
سيزداد الريسوني تشددا، سواء نحو حقوق المرأة أو حقوق الإنسان بانضمامه كـ“خبير أول” لدى مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، سنة 2006، ثم نائبا لمدير المشروع، ثم مديرا له إلى نهايته سنة 2012. علما أن المادة الحادية عشرة تنص على:
1 ـ يكون للمجمع مجلس يتكون من الرئيس ونائبه ومن خمسين عضواً أساسياً، وعشرة غير أساسيين ليس لهم حق التصويت.
2 ـ يشترط أن يتوافر في العضو ما يأتي:
أ – أن يكون سعودي الجنسية.
ب – أن يكون متخصصًا في الفقه أو أصوله أو مشهودًا له بالتميز العلمي في علم من علوم الشريعة.
ج – ألا تقل سنّه عن ثلاثين سنة.
لا شيء من هذه الشروط متوفر في الفقيه الريسوني، لكنه تدرج من العضوية إلى الرئاسة. فصار خير مدافع عن العقائد السلفية الوهابية في المغرب وخارجه.
الهجوم على العلماء وبروتوكول حفل البيعة.
توَهْبُن الفقيه الريسوني وتشبعه بالعقيدة القطبية الممزوجة بالوهابية سيتجاوز الخلاف مع الحداثيين حول بنود مدونة الأحوال الشخصية إلى مضامين الدستور ومسطرة صياغته.
إذ سرعان ما هاجم المجلس العلمي الأعلى على خلفية بيانه الذي أعلن فيه تأييد مضامين الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011، ودعوة جلالته إلى تشكيل لجنة ملكية لصياغة الدستور. ومما أغضب الفقيه الريسوني تأكيدُ العلماء تشبثهم “بإمارة المؤمنين في وجودها الشامل وتفعيلها الكامل، واعتبارهم لها في الأمة بمثابة الروح من الجسد، شرط وجوب نابع وسيبقى نابعا من سهرها المشهود في مجتمع آمن على القيام بأولويات الشرع وهي حفظ الدين وحفظ الأمن وحفظ ثمرات العمل وحفظ كرامة الإنسان المعبر عنها في الشريعة بالعرض، والناس شهود في كل يوم على الأشكال المبتكرة التي تتوسل بها إمارة المؤمنين إلى تحقيق هذه الغايات النبيلة”.
هاجم الفقيه الريسوني المجلس العلمي الأعلى مركزا على أن “أضعف الإيمان أنه كان عليه أن يحتج على إقصائه ونسيانه عند تشكيل لجنة تعديل الدستور، أو يعلن عن رؤيته في الموضوع، أو أن يدعو إلى تعزيز مكانة الإسلام وشريعته في الدستور”.
علما أن المجلس العلمي الأعلى كان ممثلا في اللجنة بعضو (رجاء مكاوي) من ضمن الأحد عشر عضوا. فالريسوني كان هدفه التأسيس دستوريا لدولة الشريعة والقطع مع الدولة المدنية بقوانينها ومؤسساتها.
لهذا ظل يستهدف مؤسسة إمارة المؤمنين وضرب مشروعيتها الدينية والوطنية باعتبارها اللحم التي توحّد الشعب المغرب وتحميه من الطائفية والصراعات المذهبية المقيتة.
في هذا الإطار يأتي هجوم الفقيه الريسوني على بروتوكولات حفل الولاء والبيعة للسلاطين المغاربة عبر قرون، في مقال بتاريخ 19 ماي 2012، حيث قال إن “الركوع والسجود لا يجوزان في الإسلام لغير الله تعالى. بل الأدلة الصحيحة دالة أيضا على تحريم القيام لغير الله.
وقد سبق لي أن بينت ذلك بأدلته التفصيلية، ورددت على القائلين بجواز القيام لغير الله تعالى (القيام وليس الركوع الذي لا يقول بجوازه أحد)، وذلك في كتابي (نظرية التقريب والتغليب) وفي غيره.
ومما يزيد الأمر قبحا وشناعة – في الدين والفطرة والذوق السليم – ذلك المشهدُ المشين المهين الذي يتكرر علينا كل سنة فيما يسمى حفل الولاء، حين يجبر جموع من الناس على الركوع الجماعي للملك وفرسه، بل تركع كل مجموعة عدة ركعات متتاليات، وكأنهم في صلاة وعبادة، نسأل الله العفو والعافية”. ولا ننسى دعوته، سنة 2003، إلى سحب إمارة المؤمنين من جلالة الملك وإسنادها لشخص مؤهل غيره.
وهي الدعوة التي اضطرته للاستقالة من رئاسة حركة التوحيد والإصلاح؛ لكنه ظل يحمل في نفسه كثيرا “من حتى”.
هكذا سعى الريسوني إلى فرض عقائده على الشعب المغربي وحثه على تغيير أعراف البيعة التي درج عليها لعهود خلت.
فقد بات ينطبق عليه المثل الشعبي “بات ليلة في الدباغ اصبح قربة”.
الحرب على إيران الشيعية.
لم يُعهد عن الفقيه الريسوني مهاجمته لإيران والتحريض ضد مخططاتها التوسعية حتى في الفترات التي اشتدت الأزمة بين المغرب وبين إيران، خصوصا بعد أحداث 1984، أو قبلها لما أفتى علماء المغرب بتكفير الخميني.
ففي مقال له بتاريخ31 غشت 2015، تحت عنوان “إيران تتفاهم مع الشيطان الأكبر وتتقاتل مع الشقيق الأكبر”، أقر أنه “قبل عشرين سنة، تزيد وتنقص، كنت أجد كثيرا من العلماء والدعاة والمثقفين السنيين يستنكرون سياسة التشييع لأهل السنة، ويستنكرون بصفة خاصة وقوف الدولة الإيرانية وراءها بأموالها ومؤسساتها ومراجعها، ويدعون إلى قطيعة مع إيران ومع الشيعة ومنظماتهم، حتى يوقفوا سياستهم تلك… وكنت أقول: هم ينشرون عقيدتهم ومذهبهم وما يؤمنون به، وليس لنا أن نمنعهم من ذلك، لكنْ: أين أهل السنة؟ وأين دولهم وحكوماتهم وعلماؤهم ومؤسساتهم وأموالهم؟”.
إن الفقيه الريسوني، حينها لم يكن يرى في إيران خطرا على الدول العربية.
سيغيّر الريسوني موقفه من إيران، وسيعلن أن “إيران منذ أن تعاظمت جيوشها وميليشياتها الطائفية عبر العالم الإسلامي، لم تعد تكتفي بالاختراق السياسي، أو التغلغل الدعوي التبشيري، بل بدأت عمليةَ اكتساح مسلح للعالم الإسلامي السني، بدءاً بلبنان، فسوريا، فالعراق، فاليمن… والبقية تأتي”. وسيشدد على موقفه العدائي من إيران في حوار صحفي له بتاريخ 8 يناير 2018 قال فيه ” هناك عقائد شيعية تحرك كل هذا، هناك عقيدة الإمام المغيب، الذي يوشك أن يرجع حسب نظرياتهم، وهم يهيؤون له من القتل والفوضى والميليشيات، ما يليق باستقباله استقبالا دمويا للأسف وهذه عقلية خرافية جاهلة هي التي تحرك السياسة الإيرانية، هي التي تحرك الجيوش الإيرانية في المنطقة، وهي التي تحرك الحرس الثوري، الذي يتحرك بضباطه وأحيانا بميليشياته استقبالا للمهدي للأسف، وكأن المهدي متعطش للدماء لكي يأتي”.
لقد وعى الفقيه الريسوني متأخرا بخطر إيران وخططها التخريبية التي وصفها كالتالي ” لم نعد فقط أمام اختراق دعوي أو ثقافي أو دعائي أو سياسي، ولكن انتقلت إيران في السنين الأخيرة وخاصة منذ سقوط العراق أو تسليم أمريكا العراق إلى إيران، أصبحت تزحف عسكريا وتنشئ ميليشياتها في كل مكان.
وهذا يوجب مواجهته بكل حزم سواء من طرف السعودية أو من طرف المغرب، أو من طرف السودان، أو من قبل جميع الدول، فجميع الدول مدعوة إلى مواجهة هذا الزحف المسلح، الزحف المذهبي، الزحف الطائفي، الذي يعتبر خلال 30 أو 40 سنة الماضية، أكبر خطر أو أكبر فساد يهدد العالم الإسلامي، لأنه يهدد بإثارة حروب أهلية في معظم الدول الإسلامية، فلو استطاعت إيران إشعال حروب أهلية في دول العالم الإسلامي لفعلت، لا قدر الله”.
كل الجرائم التي باتت واضحة أمام أعين الفقيه الريسوني كانت غائبة عنه طيلة أربعين سنة لأنه كان مشغولا بالحرب على الحداثيين وعلى حقوق النساء في إطار إستراتيجية أسلمة المجتمع والدولة التي تعتمدها تنظيمات الإسلام السياسي.
الولاء للشيعة.
لقد أعلن الفقيه الريسوني، بداية شتنبر 2024، موقفه من إيران عبر مقالة تحت عنوان “وأقيموا الشهادة” جاء فيها: “الشهادة التي أريد الآن أداءها، وأدعو إلى أدائها، إثباتا للحق وإقامة للقسط، وإزهاقا للباطل والجحود، هي أن المسلمين الشيعة قد أيدوا ونصروا إخوانهم المجاهدين في أرض فلسطين، وأبلوا في نصرتهم بلاء حسنا، وبذلوا في ذلك أرواحا وأموالا وأسلحة، وتضحيات جساما، لم يقدم أهل السنة شيئا منها”.
لم يعد غريبا، إذن، أن يخفي الفقيه الريسوني تحت جلبابه المغربي، شخصا تارة قُطْبي العقيدة وأخرى وهّابي المذهب، وثالثة شيعي الهوى والمنزع.
فهو الذي درج على امتطاء الموجات العقائدية والنطق بلسانها. فكلما دارت مصلحته يدور معها. وستظل حربائيته وانعطافاته المذهبية مجرد فقاعات لا جدوى.
فثبات المغاربة على مذهبهم المالكي ظل عصيا على كل الاختراقات المذهبية.