الاتجاه نحو الكارثة
الاتجاه نحو الكارثة
كتبها: احمد الدافري
هناك أشخاص، شبان وشابات، تربطني علاقة صداقة بهم، ومن بينهم من هم موجودون معنا في هذا الفضاء، كانوا قد قرروا يوما أن يتكونوا في مجال الإعلام والتواصل، بعدما نالوا شهادة الإجازة.
كان من بين هؤلاء، من درس الآداب، أو اللغات الأجنبية، أو العلوم القانونية، أو العلوم الدقيقة.. ففكروا في اجتياز مباراة مواصلة دراستهم الجامعية العليا في ماستر الترجمة والتواصل والإعلام، ونجحوا في المباراة، وخضعوا لتكوين نظري وتطبيقي، وأجروا تدريبات، ونجحوا بتفوق بعد عامين من التكوين، وحصلوا على شهادة ماستر تخول لهم العمل في مؤسسات إعلامية، أو في القطاع الخاص أو العام، في مكاتب التواصل.
الذي حدث لهؤلاء المتخرجين منذ سنوات، أن أغلبهم مازالوا لم يجدوا عملا..
هناك مؤسسات إعلامية قامت بتشغيل البعض منهم، لكن معظمهم وجدوا أنفسهم مضطرين لممارسة أعمال أخرى بسيطة من أجل مواجهة متطلبات العيش.
قد يقول قائل، لماذا لا يخلق هؤلاء الخريجون من مدارس ومعاهد علوم الإعلام والتواصل مشاريعهم الخاصة، ويؤسسون مقاولات ذاتية، ويشتغلون “فريلانس” مثلا، أو يعرضون خدماتهم على جهات تحتاج مشاريعها إلى إشهار؟
نعم. هذا ممكن.
لكنه أمر غير مُجدٍ في المناخ العام الذي تُمارس فيه الصحافة حاليا، حيث يمكن لأي شخص ليس له أي دبلوم ولا أي تكوين في المجال، أن يُنشئ قناة في الإنترنت، وأن يزيد في تأزيم وضع المهنة من الناحية الأخلاقية، بأن يتحول إلى مجرد بهلوان يضرب هذا بذاك، ويضحك على ذاك بهذا، من أجل خلق الإثارة، وترويج ما يتلاءم مع ذوق متردٍّ يميل نحو تشجيع السب والقذف والتشهير، أو أن يؤسس جمعية خاضعة لقانون الحريات العامة، ويكتب في قانونها الأساسي بأنها متخصصة في الإعلام، ويصبح رئيسا لهذه الجمعية، ويحصل على وصل إيداع، ويطبع بطاقات فيها اسم الجمعية، ويتوكل على الله، ويدخل الميدان.
بل إن هناك من لا ينتمي لأية جمعية، ولم يسبق له قط أن تلقى أي درس في مهنة وأخلاقيات الإعلام، ومع ذلك تجده هو أول من يمد ميكروفونه لطرح السؤال، أو أول من ينشر فيديو أو صورة دون أن يعرف لا متى ولا أين ولا لماذا ولا كيف حدث ما حدث. وهو معذور.
لأنه لم يدرس الصحافة، ولم يتكون في مجال المعرفة الدقيقة بسياقات ظهور الخبر، وبالتأثيرات التي تجعل الخبر أحيانا يتخذ منحى آخر غير المنحى الذي حٌدّد له في الأصل..
أرباب مقاولات صحفية صغرى قاموا مشكورين بتشغيل عدد من الخريجين الذين تكونوا في علوم الإعلام والتواصل، لكن هذه المقاولات تعيش حاليا في حالة اختناق مالي شديد، وهي على حافة الإفلاس، وهي لا تحظى بأي دعم من أية جهة، رغم أنها تقدم مواد إعلامية دقيقة ومفيدة ووفق الأساليب العلمية والضوابط الأخلاقية في ممارسة مهنة الإعلام.
مثل هذه المقاولات، ستندثر لا محالة وسط ركام المشاكل وكمّ الفوضى المنتشرة في الميدان.
مع الأسف، يظهر جليا أن هناك توجها نحو أن تندثر هذه المقاولات الإعلامية الصغيرة المُكافحة، وأن يبقى فقط من يُسمون “المؤثرين” في شبكات التواصل الاجتماعي، الذين تخرج عدد منهم من مدارس النميمة واللسان السليط، وتكونوا في عملية الضرب فوق الطاولات، وأصبحوا بتشجيع ممن يريد إفساد المجال يستفيدون من صفقات الإشهار ومن عقود الإعلانات، بل أضحى البعض منهم يزاحمون حتى الفنانين المتخرجين من معاهد التمثيل والإخراج، وأصبحوا يظهرون في الأعمال الفنية وفي السهرات والحفلات.
إن اندثر العالمون بأمور المهنة، المتكونون فيها، المتفقهون في شؤونها، العارفون بحدود الخطأ والصواب فيها، ويبدو أننا في الطريق إلى ذلك، ما على الدولة، ونحن معها، إلا أن نتحمل العواقب التي سيؤديها المجتمع.
الله يصلح الحال.
وهذا ما كان