عام على طوفان الأقصى: التكلفة والمآل
عام على طوفان الأقصى: التكلفة والمآل.
سعيد الكحل.
يتمم “طوفان الأقصى” عامه الأول في ظروف دولية وإقليمية أكثر تعقيدا مما كانت عليه لحظة تفجير شرارته.
مدة كافية لتقييم الوضع ورصد ما تحقق من أهداف “الطوفان” وما التكلفة؛ ثم قياس المدى الذي يفصل عن هدف الاستقلال وقيام الدولة الفلسطينية.
الوضع قبل الطوفان.
لا ينكر أحد أن حصار غزة لسنوات متواصلة لا يمكنه إلا أن يخلق بيئة قابلة للانفجار بأقصى الدرجات. رغم ذلك ظل سكان غزة يمارسون أنشطتهم الاعتيادية (تجارية، فلاحية، مهنية) بما فيها العمالة داخل إسرائيل، ويستفيدون من المساعدات الإنسانية، الطبية والغذائية، بشكل سلس (500 شاحنة كانت تدخل غزة يوميا قبل الحرب وفقا للأمم المتحدة). وكانت العمالة الفلسطينية في إسرائيل بلغت 200 ألف عامل منها 20 ألف من قطاع غزة بمتوسط أجر يومي للعامل 81 دولار. وشكل هذا العدد أهم مورد مالي للأسواق الفلسطينية؛ إذ كان يضخ 400 مليون دولار شهريا. في المقابل كان قطاع غزة يعاني من ارتفاع نسبة البطالة (45.1 بالمئة) مقارنة مع الضفة الغربية (12.9 بالمئة).
أما قطاع التعليم، فقد بلغ عدد التلاميذ والطلاب في غزة برسم الموسم الدراسي 2023/2024، أكثر من 625 ألف طالب، ضمنهم 40 ألف بمستوى البكالوريا و88.000 ألف طالبة وطالب مسجلين في 19 مؤسسة جامعية، فيما بلغ عدد العاملين في التعليم العالي (5100) عامل.
أما عدد المدارس في القطاع فقد بلغ (803) مؤسسة، موزعة كالتالي: (448) مدرسة حكومية، و(288) مدرسة تتبع لوكالة الغوث الدولية “الأونروا”، و(67) مدرسة خاصة. ويشتغل في قطاع التعليم حوالي (22,000) معلم ومعلمة، منهم (12,000) في مدارس الحكومة و(9,300) آلاف في مدارس وكالة الغوث، و1,300 معلم ومعلمة في المدارس الخاصة. كما يوجد في قطاع غزة (620) روضة أطفال وتضم (68,392) طفلاً.
الوضع المترتب عن الطوفان.
الحرب على غزة لم تكن ككل حرب يتواجه فيها جيشان بقدرات عسكرية متكافئة.
بل هي حرب إبادة ودمار شامل للبشر وللحجر والشجر. حرب موازين القوة فيها غير متكافئة، مما أدى إلى تدمير 80 ألف وحدة سكنية تدميرا كاملا من ضمن 370 ألف وحدة تضررت بفعل القصف الإسرائيلي، وفقا للتقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا.
وتسبب هذا الدمار في تشريد 1.7 مليون شخص إلى حدود 2 أبريل 2024 حسب منظمة الصحة العالمية.
وتحتاج إعادة بناء جميع المنازل، في حال توقفت الحرب، 16 سنة، أي حتى عام 2040. كما امتد الدمار ليأتي على أكثر من 117 مدرسة وجامعة كليا، و332 مدرسة وجامعة جزئيا حسب مركز الإحصاء الفلسطيني، والتي تحولت إلى مراكز لإيواء آلاف النازحين.
يمكن تعويض الخسائر المادية، لكن يستحيل تعويض الأرواح التي سقطت تحت جدران تلك المؤسسات التعليمية والجامعية (10.000 طالب وطالبة من مختلف المستويات التعليمية، و261 معلما و 100 أستاذ جامعي، كما أصيب أكثر من17.000 طالب وتلميذ، ضمنهم 3,000 طالب وطالبة أصبحوا من ذوي الإعاقة، و 750 معلما إلى حدود غشت 2024.
وقد حرمت الحرب جميع التلاميذ والطلبة من التعليم ومن اجتياز الامتحانات، من بينهم 40 ألفا فاتتهم امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا) المؤهلة للالتحاق بالجامعات.
وشمل الدمار 15 قطاعا حيويا في غزة، بحيث دمر الاحتلال، كليا أو جزئيا، 70% من سفن الصيد؛ بالإضافة إلى تدمير ما بين 80% و96% من الأصول الزراعية بما في ذلك أنظمة الري ومزارع الماشية والبساتين والآلات ومرافق التخزين في غزة بحلول أوائل عام 2024، وفق تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد).
الأمر الذي تسبب في انهيار القدرة على إنتاج الغذاء حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي في غزة بنسبة 81%.
الأمر الذي جعل أكثر من نصف سكان غزة على حافة المجاعة.
كما أدت الحرب على غزة إلى تدمير 92% من الطرق الرئيسية، وتضرر أو تدمير 84% من المستشفيات والمنشآت الصحية، فضلا عن تدمير شبكات توزيع المياه والكهرباء مما تسبب في نقص حاد في المياه فاقمتها سياسة التجويع التي انتهجتها سلطات الاحتلال عبر إغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات الإنسانية.
ومن ثم لم يعد يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة.
وازداد الوضع الصحي تدهورا بسبب انتشار النفايات والأمراض خاصة في صفوف الأطفال.
إن تكلفة إعادة البناء وإصلاح ما دمرته الآلة الحربية الإسرائيلية في قطاع غزة لا تقل تكلفته عن 18.5 مليار دولار حسب تقرير صدر عن البنك الدولي والأمم المتحدة بتاريخ 2 أبريل 2024؛ أي ما يعادل 97% من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً لعام 2022. ويظل العائق الكبير في وجه جهود إعادة البناء ما خلفه الدمار من كميات هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها، بحسب نفس التقرير.
حماس حكومة أم حركة؟
إن حركة حماس لم تقدّر تبعات “طوفان الأقصى” قبل تفجير شرارته.
فقد اختلط لديها الأمر بين كونها حركة مقاومة وما يتمتع به أعضاؤها من روح التضحية والموت في سبيل تحرير الأرض، وبين كونها حكومة مسؤولة عن تدبير شأن سكان القطاع، باعتبارهم جزءا من الشعب الفلسطيني، وما يقتضيه ذلك من عمل جاد لتوفير الخدمات الاجتماعية والمواد الاستهلاكية الأساسية والحاجيات المادية الضرورية للساكنة، فضلا عن حماية الأرواح والممتلكات.
وهذا يقتضي، قبل اتخاذ أي قرار، استحضار المصلحة العليا للمواطنين.
فحين قررت الحركة مهاجمة إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، لم تستحضر تلك المصلحة العليا، أي لم تتصرف كحكومة مسؤولة عن مصير المواطنين؛ وإنما تصرفت كحركة مقاومة أرواحُ أعضائها على أكفّهم.
وظلت الحركة على موقفها حتى وآلة الدمار تأتي على الأرواح بأعداد كبيرة.
أي أن الحركة لم يكن هاجسها الحفاظ على أرواح المواطنين بقدر ما كان هاجسها تأمين أرواح مقاتليها عبر حفر الخنادق وبناء الملاجئ التي لم يستفد منها المواطنون العزّل.
لهذا لم يتردد قادتها في الإعلان عن استعدادهم للقتال إلى آخر طفل فلسطيني.
وقد كشفت رسائل السنوار إلى قيادة حماس رهانه على مزيد من قتلى المدنيين الفلسطينيين للضغط على إسرائيل.
ومما قاله: إن “ارتفاع عدد الضحايا المدنيين سيخلق ضغوطا عالمية على إسرائيل”.
وتبين أن السنوار لم يكن يقاتل من أجل فلسطين، بل من أجل “مجد” خالد.
فقد كتب بعد علمه بمقتل ثلاثة من أبناء هنية في غارة جوية إسرائيلية، أن “موتهم ومقتل الفلسطينيين الآخرين سيبث الحياة في عروق هذه الأمة، ويدفعها نحو الارتقاء إلى مستوى أعلى من مجدها وشرفها”.
لم تكن أرواح الفلسطينيين تهم السنوار ولا أوضاعهم المأساوية، بقدر ما كان همّه جر الفلسطينيين إلى “كربلاء جديدة”؛ إذ كتب في إحدى رسائله: “علينا أن نمضي قدمًا على نفس المسار الذي بدأناه أو فلتكن كربلاء جديدة “.
كربلاء جديدة بدماء الفلسطينيين الذين لم تُعدّ لهم حماس الملاجئ والخنادق مثلما أعدّتها لمقاتليها. بهذا المنطق صار سكان غزة فداء للحركة ولم تكن الحركة فداء للسكان.
إذ رغم تزايد أعداد القتلى ضحايا القصف الإسرائيلي لم تفرج عن المحتجزين حتى تحرج إسرائيل أمام العالم وتسحب منها ذريعة مواصلة العدوان على غزة.
حماس في خدمة الأجندة الإيرانية.
تجاوز عدد الضحايا من الفلسطينيين 41615 شهيدا و 96359 مصابا و 10000 مفقود ومثلهم من السجناء إلى حدود 30 شتنبر 2024. كل هذه التكلفة الباهضة لم تغير من موقف حماس فتعلن موافقتها على إطلاق المحتجزين حفاظا على أرواح المواطنين وحماية لهم من القتل أو الاعتقال. لم يحدث في تاريخ أي مقاومة أن جعلت الشعب فداء لها، أو استرخصت أرواح المواطنين.
بل إن كل الحركات المقاوِمة استرخصت أرواح مقاتليها من أجل الشعب.
وهذا الإصرار لدى حماس يقوي الاعتقاد بأن قرارها بيد طهران، وأنها مجرد أداة تستعملها إيران لتحقيق أهدافها حتى وإن أدى الأمر إلى تدمير غزة والآن جاء الدور على لبنان. إنها جعلت غزة في خدمة طهران وتحققت رغبة السنوار في “كربلاء جديدة” بدماء الفلسطينيين السنّة الذين لا تعني لهم “كربلاء” ما تعنيه للشيعة.
لم يعد الوطن على مرمى حجر.
ما حققته انتفاضة أطفال الحجارة لفائدة القضية الفلسطينية لم تحققه البندقية ولا مقذوفات الكتيوشا.
إذ انتزعت اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد وشرعي للفلسطينيين؛ ثم اتفاق أوسلو الذي بموجبه أصبحت للفلسطينيين نواة دولة تمارس بعض السلطات على الأرض المحررة. ورغم معارضة حماس لاتفاق أوسلو إلا أنها استغلته لإقامة “إمارة إسلامية” في غزة مستقلة عن السلطة الفلسطينية في الضفة.
وكان قرار الانفصال أول هدية قدمتها حماس لإسرائيل بأن أضعفت الجبهة الداخلية للفلسطينيين وكسّرت شوكتهم. وهذا ما كانت تريده وتسعى إليه إسرائيل.
شكل انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية بداية الانحراف عن هدف إقامة دولة/وطن للفلسطينيين. وسيتكرس بإدخال غزة في حرب غير متكافئة مع إسرائيل تنتهي، كل مرة، بفرض مزيد من الحصار على القطاع. بهذا الانفراد بقرار خوض الحرب/ المواجهة عملت حماس على خدمة أهداف اليمين الإسرائيلي وتقوية نفوذه السياسي وتعزيز شعبيته حتى بات هدف إقامة وطن فلسطيني مستقل حلما بعد أن كان على مرمى حجر، ثم نواة على الأرض. هكذا أضاعت حماس على الفلسطينيين فرصة إقامة دولتهم مهما كانت حدودها وسلطاتها. فما لا يدرك كله لا يترك جله.
الطوفان جرف نواة الوطن.
قرار الهجوم على إسرائيل يوم 7 أكتوبر 2023 وقتل واحتجاز إسرائيليين مدنيين وعسكريين كان انتحارا سياسيا وعسكريا رأينا كلفته البشرية والمادية، لكن كلفته السياسية ستكون أخطر. ذلك أن حماس قدمت كل الأدلة التي كانت تحتاجها إسرائيل لتبرير رفضها قيام دولة فلسطينية بجوارها.
أي أثبتت للعالم عموما وللدول الغربية الحليفة لإسرائيل، أنها تشكل خطرا حقيقيا على أمن إسرائيل.
فإذا كانت حماس، وهي بعد ليست دولة ولا تملك سلاحا، تفجر “طوفانا” بتلك الخطورة، فماذا عساها تفعل يوم تمتلك دولة بكل مقوماتها السيادية والعسكرية؟ عنصر الثقة الذي يمكن أن يلعب دورا مركزيا في تسهيل ولادة دولة فلسطينية جنينية، وذلك بطمأنة إسرائيل والدول الغربية على توفير الأمن وعدم تشكيل أي تهديد لإسرائيل، خرّبته حماس وخربت معه النواة.
لقد اقتنعت إسرائيل أن السلام مع حماس غير ممكن. ولعل نجاح نتنياهو في تصفية رموز حماس وحزب الله وتحجيم خطرهما سيزيد شعبية اليمن المتطرف في إسرائيل، ومن ثم لا إمكانية لعودة حماس إلى السلطة في غزة، ولا وطن للفلسطينيين في الأفق ما لم تسترجع السلطة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير المبادرة التي كانت لها مع انتفاضة أطفال الحجارة لتكون الجهة الوحيدة الممثلة للشعب الفلسطيني والمكلفة بتسيير شؤونه في الضفة والقطاع.