افتقار الحكومة إلى الحكامة والرؤية الاستباقية!
افتقار الحكومة إلى الحكامة والرؤية الاستباقية!
بعيدا عما ظل يتلقاه المواطنون من ضربات موجعة في السنوات الأخيرة، أثرت بشكل لافت على قدرتهم الشرائية وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، بفعل تهاون مدبري الشأن العام وتقصيرهم في أداء واجباتهم وإخلال الكثيرين منهم بالتزاماتهم، وما ترتب عن ذلك من شعور بالإحباط وفقدان الثقة في المؤسسات والمنتخبين، فإنه مازالت هناك فئات عريضة من المجتمع المغربي متمسكة بالأمل في أن يأتي يوم تتغير فيه أحوال الناس وتتحسن ظروف عيشهم، لذلك استبشروا خيرا بقدوم حكومة عزيز أخنوش، التي قيل عنها “حكومة كفاءات”.
بيد أنه سرعان ما تبين للمغاربة أن “حكومة الكفاءات” ليست في واقع الأمر سوى “خدعة كبرى”، لما أقدمت على اتخاذه من قرارات جائرة ومستفزة، بدءا بسحب مشروع قانون الإثراء غير المشروع، الذي راهنوا على أن يكون مدخلا أساسيا لمكافحة الفساد وعدم الإفلات من العقاب، مرورا بتسقيف سن ولوج مهنة التعليم في 30 سنة، وصولا إلى الأنظمة الأساسية التي أشعلت فتيل الاحتجاجات والإضرابات، مما أدى إلى شل الدراسة والعمل بالمؤسسات التعليمية والجامعية والمحاكم والمستشفيات…
ففي هذا السياق المحموم دخل أطباء القطاع العام يوم الثلاثاء 19 نونبر 2024 إضرابا وطنيا بجميع المستشفيات المغربية، على أن يلتحق بهم يوم الأربعاء 20 نونبر الأطباء الداخليون والمقيمون في خطوة احتجاجية مماثلة. غير أنه مراعاة للحالات الخطيرة والحرجة التي تستوجب التدخل السريع، شدد الأطباء المضربون على ألا يتوقف العمل في أقسام المستعجلات والإتعاش وباقي الخدمات الأساسية طيلة فترة الإضراب المقرر تمديدها لثلاثة أسابيع ما لم تتحقق مطالبهم المشروعة، مقدمين اعتذارهم للمواطنين عما قد يتسبب لهم فيه الإضراب الذي انخرطوا فيه مضطرين من أضرار، وحدها الوزارة الوصية من تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عنها.
وتأتي انتفاضة هؤلاء الأطباء ليس فقط بسبب غياب قانون تنظيمي يكفل لهم الحفاظ على صفة “موظف عمومي كامل الحقوق، ومركزية الأجور وحماية المناصب المالية والأجور من الميزانية العامة من بند نفقات الموظفين”، بل كذلك جراء حرمانهم من الزيادة في الأجور على غرار باقي موظفي القطاع العمومي، وعدم الالتزام الحكومي والتراجع المستمر عن كل ما تم الاتفاق عليه بين النقابة ووزارة الصحة والحماية الاجتماعية في محضري 29 دجنبر 2023 ونهاية يناير 2024.
والأهم من ذلك، رفضهم التام للنظام الأساسي النموذجي الذي وصفوه بالفضيحة، حيث أنه جاء يحمل في طياته “فصولا ملغومة تضرب في العمق مجموعة من الحقوق الأساسية والمكتسبات المكفولة في النظام الأساسي للوظيفة العمومية، بل ويعطي المدير العام صلاحيات للطرد التعسفي والشطط في استعمال السلطة والتقرير في مواقيت العمل ومقرات العمل كما أراد، ويحرم فئة الأطباء من الترقي في الدرجة بالصيغة القديمة بتحديد كوطا مشؤومة”.
ثم إنه ليست وحدها فئة أطباء القطاع العام التي خرجت للتعبير عن استيائها مما تعاني من حيف وإقصاء، فهناك هيئات أخرى سبقتها إلى ذلك، ومنها الاتحاد الوطني للمهندسين المغاربة الذي طالب في أكثر من وقفة احتجاجية منذ سنة 2022 بضرورة إعادة النظر في النظام الأساسي الحالي الخاص بهيئة المهندسين المشتركة بين الوزارات، وإخراج نظام أساسي جديد منصف ومحفز، تنظيم المهنة ومراجعة نظام الترقية، خاصة بعد تضرر قدرتهم الشرائية التي انخفضت بحوالي 25 في المائة أمام استفحال الغلاء وتدني مستوى عيشهم، مما ساهم في ارتفاع معدل الهجرة نحو الخارج في صفوفهم خلال السنوات الأخيرة.
وهناك أيضا إضرابات هيئة “كتاب الضبط” التي شلت محاكم المملكة على مدى سنة كاملة، حيث كان الموظفون المعنيون يلجؤون مضطرين إلى التوقف عن العمل ثلاثة أيام في الأسبوع الثلاثاء والأربعاء والخميس، بسبب ما جاء به النظام الأساسي من تعديلات دون مستوى انتظاراتهم، وتشكل حسب رأيهم تراجعات خطيرة من شأنها أن تعيدهم إلى ما اعتبروه نظام “السخرة والعبودية”، متهمين الوزارة الوصية بنهج سياسة التعتيم والتكتم حول عديد التعديلات، ورافضين جميع المواد التي تمس بهويتهم وكرامتهم. وهو ما أدى في الأخير إلى توصل النقابة الديمقراطية للعدل لاتفاق مع وزير العدل عبد اللطيف وهبي، بخصوص مراجعة النظام الأساسي وتحسين وضعية العاملين بالقطاع، كما ورد في بلاغ صادر عن ذات النقابة يوم 7 أكتوبر 2024.
والأخطر من ذلك هو أنه خلافا لأبناء الطبقات الميسورة الذين يتابعون دراستهم في القطاع الخصوصي، تم حرمان تلاميذ المؤسسات التعليمية بالقطاع العمومي من الدراسة لأزيد من ثلاثة شهور، بسبب تعنت وزير التربية الوطنية السابق شكيب بنموسى وتمسكه الأعمى بالنظام الأساسي الجديد، الذي اعتبرته الشغيلة التعليمية نظاما مشؤوما ولا يرقى إلى مستوى تطلعاتها، ضاربا بذلك عرض الحائط بمبدأ تكافؤ الفرص ومصلحة ما لا يقل عن سبعة ملايين متعلمة ومتعلم…
إن المغرب لم يشهد من الأزمات الاجتماعية مثل التي شهدها ويشهدها في عهد حكومة أخنوش، وخاصة تلك المتعلقة بكليات الطب والصيدلة وطب الأسنان، التي لم تعرف الحل إلا بعد مرور 11 شهرا وخضوع الحكومة إلى تعديل وزاري موسع شمل دخول 14 وزيرا وخروج 8 وزراء، مما يؤكد أننا لسنا أمام “حكومة كفاءات”، بقدر ما هي حكومة هدر الزمن السياسي والتنموي والاجتماعي بامتياز، لكونها تعتمد مقاربات فاشلة تقوم فقط على تأزيم الأوضاع، وتفتقر إلى الحكامة الجيدة والقدرة على التعامل الجاد والمسؤول مع الإشكالات والأزمات في عديد القطاعات.
اسماعيل الحلوتي