swiss replica watches
غياب المتحف الوطني في المغرب: إقصاء للذاكرة الجماعية وتفريط في الهوية الحضارية – سياسي

غياب المتحف الوطني في المغرب: إقصاء للذاكرة الجماعية وتفريط في الهوية الحضارية

غياب المتحف الوطني في المغرب: إقصاء للذاكرة الجماعية وتفريط في الهوية الحضارية

 

فيصل مرجاني

غياب متحف وطني في المغرب ليس مجرد نقص في البنية الثقافية أو ترفاً يمكن تجاوزه، بل هو إشكالية عميقة تمس جوهر الهوية الوطنية وتمثل تساؤلاً ملحاً حول رؤية الدولة لدورها في الحفاظ على الذاكرة الجماعية.

في بلد مثل المغرب، الذي يحمل في طياته تاريخاً ضارباً في القدم وتراثاً ثقافياً متنوعاً وغنياً، يصبح غياب مؤسسة وطنية تُخلّد هذا الإرث، وتُعيد تأويله، وتعرضه للأجيال القادمة، دليلاً على تقاعس في التعامل مع الثقافة كركيزة أساسية في بناء الأمة.

المتحف الوطني ليس مجرد مستودع للأشياء القديمة، بل هو فضاء حي يحمل بين جدرانه روح الأمة وهويتها وتاريخها، ويشكل منصة للحوار بين الماضي والحاضر، وبين الذات الوطنية والآخر العالمي.

إن الهوية المغربية ليست مجرد سردية أحادية، بل هي نتيجة تفاعل معقد بين حضارات وثقافات متداخلة، تشمل الأمازيغية والعبرانية والعربية والإسلامية والإفريقية والأندلسية.

هذا التعدد، الذي يظهر في كل جوانب الحياة المغربية، من الهندسة المعمارية إلى الموسيقى، ومن الأزياء التقليدية إلى الطقوس اليومية، يحتاج إلى إطار مؤسساتي يُبرز تناغمه وتكامله.

غياب المتحف الوطني في المغرب يعكس ضعفاً في استيعاب أهمية الثقافة كعنصر مؤسس للهوية الجماعية وكأداة استراتيجية للتنمية.

فالثقافة ليست مجرد احتفاء بالماضي، بل هي وسيلة لإعادة إنتاج المعنى في الحاضر، وصياغة رؤية مستقبلية مستدامة.

إن الدول التي تدرك قيمة متاحفها الوطنية تنظر إليها باعتبارها مؤسسات سيادية، تُعيد من خلالها كتابة تاريخها، وتعزز عبرها هويتها الوطنية، وتقدم من خلالها نفسها للعالم كفاعل حضاري يمتلك سرديته الخاصة.

المغرب، بهذا الغنى الفريد، يمتلك كل المقومات ليصبح نموذجاً عالمياً في إبراز التعددية الثقافية. ومع ذلك، فإن غياب متحف وطني جامع يعني أن هذا التراث يظل مشوشاً ومتفرقاً، يُعرض أحياناً في متاحف محلية محدودة، أو يظل مجرد قصص تُتناقل شفوياً دون إطار يوثّقها ويحفظها للأجيال القادمة. الهوية، في جوهرها، هي تراكم للذاكرة؛ وإذا فقدت الأمم أدواتها لحفظ هذه الذاكرة، فإنها تخاطر بفقدان ذاتها.

إن المتحف الوطني، لو تحقق، لن يكون مجرد بناء مادي، بل سيكون رمزاً معنوياً يعكس قدرة المغرب على قراءة ذاته وفهم تاريخه وإعادة صياغته بطريقة تُبرز إنجازاته وتقدّم قصته للعالم.

سيكون فضاءً يجمع بين مكونات الهوية الوطنية المتعددة، من التراث الأمازيغي العريق إلى الموروث الإسلامي العميق، ومن التأثيرات الإفريقية إلى المساهمات اليهودية والأندلسية.

إنه مساحة تتيح لكل فرد أن يجد نفسه في هذا الكل المتناغم، وتمنح المغاربة شعوراً بالفخر والانتماء.

غياب هذا الفضاء الجامع يعني أيضاً تضييع فرصة للحوار بين الأجيال.

فالمتحف ليس مجرد مكان يعرض فيه الماضي، بل هو جسر يربط الحاضر بالماضي، ويخلق سياقاً يسمح للشباب بفهم أصولهم وتقديرها، ويدفعهم للتفكير في كيفية بناء مستقبل يعكس هذه القيم الثقافية.

إن الهوية ليست حالة ثابتة، بل هي عملية مستمرة تتجدد بتفاعلها مع معطيات الحاضر، والمتحف هو أحد أهم أدوات هذا التفاعل.

إن غياب المتحف الوطني في المغرب يعكس أيضاً قصوراً في التعامل مع الثقافة كأداة للقوة الناعمة. في عالم أصبح فيه الحضور الثقافي جزءاً من السيادة، يشكل التراث المادي واللامادي أحد أعمدة القوة الحضارية.

البلدان التي تُدرك هذا المعطى تعمل على استثمار متاحفها الوطنية ليس فقط لحفظ تراثها، بل لعرضه كرسالة حضارية للعالم. المغرب، الذي يمتلك تاريخاً غنياً ولغة حضارية متعددة الأبعاد، يُفترض أن يكون في مقدمة الدول التي تستخدم هذا التراث لإعادة تعريف مكانتها في العالم.

إن غياب المتحف الوطني هو، في جوهره، غياب لرؤية استراتيجية تُدرك أهمية الثقافة كوسيلة لتوحيد المجتمع وتعزيز الانتماء.

المغرب ليس فقط بلد التقاليد والعادات؛ إنه نموذج للتعايش والتعددية، وتجسيد حي لقدرة الشعوب على تحويل اختلافاتها إلى مصدر للثراء والقوة. متحف وطني شامل سيشكل منصة لهذا الاحتفاء، وسيعيد كتابة السردية الوطنية بطريقة تُبرز التنوع ضمن الوحدة، وتعكس القوة الكامنة في هذا الانسجام الفريد.

المغرب يستحق متحفاً وطنياً يليق بتاريخه العريق وتراثه الغني.

متحفاً لا يحفظ فقط الماضي، بل يعيد تأويله ويقدمه كرسالة للأجيال القادمة، ورسالة للعالم تُبرز مكانة المغرب كمهد للحضارات، ونموذج للعيش المشترك.

بدون هذا المتحف، يظل التراث الوطني مهدداً بالتشتت، وتظل الهوية المغربية عرضة للغياب في خضم العولمة والتحديات الكبرى.

حضارتنا المغربية ليست مجرد إرث يُروى؛ إنها نحن، وبدونها، نفقد قدرتنا على تعريف ذواتنا، وعلى تقديم قصتنا للعالم بفخر واعتزاز.

فيصل مرجاني

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*