الديمقراطية والفساد في كوريا الجنوبية…
الديمقراطية والفساد في كوريا الجنوبية
بقلم: عادل بن حمزة
بشعبية لا تتعدى 20 بالمائة حسب آخر استطلاعات الرأي، فاجأ الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول العالم مساء الثلاثاء الماضي بإعلانه الأحكام العرفية في البلاد وتعطيل المؤسسات الديمقراطية لدرأ خطر الشيوعيين الذين، بحسبه، يتحكمون في البرلمان، علما أن كوريا الجنوبية عرفت
الأحكام العرفية آخر مرة في 1979، عقب اغتيال الحاكم العسكري آنذاك في انقلاب عليه.
الأزمة الحالية في كوريا الجنوبية، تعيد إلى الأذهان المسار الذي عرفته سيول لتحقيق الديمقراطية رغم هشاشتها والتنمية الاقتصادية وفي صلبها التكنولوجيا، فقد كانت كوريا حين تأسيسها واحدة من أفقر دول العالم حيث لم يكن دخل الفرد يتجاوز 80 دولارفي السنة وكانت تعاني من دمار اقتصادي وفوضى سياسية عارمة، وبعد تقسيم شبه الجزيرة الكورية تدهورت الحالة الاقتصادية أكثر، وبلغت أضرار الحرب الكورية على كوريا الجنوبية ما يقارب 70 مليار دولار أي ما يعادل 18 مرة الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية في تلك الفترة، ناهيك عن الخسائر البشرية الكبيرة والتي بلغت 1.3 مليون كوري من بينهم 400 ألف قتيل.
بصفة عامة كانت البلاد مُدمرة ويائسة وبلا أفق، تعيش فقط على المساعدات الدولية خاصة الأمريكية التي بلغت حوالي 17 مليار دولار، وغارقة في اضطرابات اقتصادية وسياسية. نتيجة لذلك كان طبيعيا أن تركز الحكومة الكورية في الفترة من 1953 تاريخ نهاية الحرب الكورية إلى 1962 على إعادة بناء البنية التحتية للبلاد التي دمرت بسبب الحرب الكورية، وبناء قوة عسكرية قادرة على ردع أي خطر قادم من كوريا الشمالية التي كانت خاضعة للنفوذ السوفياتي وهنا كان الدور الأمريكي بارزا، ثم إزالة الإرث الياباني الاقتصادي والثقافي وإعادة الاعتبار للهوية الكورية وفي صلبها اللغة الكورية التي تم تطهيرها من كل المصطلحات اليابانية الدخيلة حيث تم خلق نوع من الوحدة القسرية على اللغة الكورية المعيارية.
لم تنبثق تجربة الانتقال الديمقراطي في كوريا عن أزمة اقتصادية، بل إن مسارها يتسم بخصوصية ربما لم تتحقق في تجارب أخرى على المستوى الدولي، فقد أظهر النظام الديكتاتوري في كوريا الجنوبية أداء اقتصاديا كبيرا، فبفضل جهود إعادة البناء وفي ظل الدعم الأمريكي، استطاع تحقيق معدلات نمو لافتة من رقمين، يكفي أنه بلغ سنة 1986 ما قدره 12 بالمائة، وبين سنتي 1970 و 1980 زاد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي عشرة أضعاف، كما حقق الميزان التجاري فائضا بلغ 4 مليارات دولار.
هذا التطور الاقتصادي خلف طبقة متوسطة تبدي طموحات أخرى تتعلق بالمشاركة السياسية، وهو ما يؤكده استطلاع للرأي أجري ربيع 1987 من طرف معهد” Hanguk Ilbo ” ، خلص إلى أن 83 بالمائة من الطبقة الوسطى الجديدة، ترفض مقايضة حريتها ورفاهيتها من أجل الاستقرار، وأن 85 بالمائة منهم يضعون احترام الحقوق الأساسية قبل النمو، وهذا ما يتوافق مع خلاصة الدراسة الهامة التي أنجزها كل من Wu و Davis سنة 1999 حول 100 دولة بين 1975 و 1992 والتي مفادها أنه عندما يتحقق الازدهار الاقتصادي يزداد منسوب الحرية السياسية، علاوة على ذلك، فعملية الإنتقال الديمقراطي لم ترتبط بوجود أزمة مفتوحة سواء داخل الطبقة الحاكمة أوالمؤسسة العسكرية بالشكل الذي يوحي بقرب سقوط النظام.
في المقابل، نجد أن القوى المحافظة الممثلة في النخبة العسكرية والأوليغارشية وظفت لسنوات طويلة، الوضع الجيوستراتيجي المعقد في شبه الجزيرة الكورية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتقسيم كوريا، وأجواء الحرب الباردة، لتبرير استمرارها في حكم البلاد وتمديد السلطوية، مستثمرة في ذلك أربعة عوامل أساسية:
– العامل الأول: يرتبط بالرؤية الأمريكية لكوريا ودورها في مواجهة المد الشيوعي وهو ما جعل كل حركة سياسية مطلبية يتم التعامل معها كتهديد خارجي، ويجد المساندة الأمريكية، هذا المنطق استمر إلى يوم الثلاثاء الماضي عندما برر الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول عند إعلانه للأحكام العرفية في البلاد.
– العامل الثاني: الدور السلبي الذي لعبه “الشيبول” (Chaebols) الذي يعود إحداثه لإرادة الدولة مطلع الستينات من القرن الماضي وهي مجموعة من الشركات المستقلة رسميا لكنها تعمل تحت السيطرة الإدارية والمالية لعائلة واحدة، وهو ما يعني جزءا من الثروة متكتل في عائلة واحدة، إذ شكل التحالف بين النخبة الاقتصادية والنخبة العسكرية، جبهة لمواجهة كل دينامية مجتمعية تطالب بالإصلاح السياسي ومحاربة الفساد، هذا الأخير ارتبط في كوريا “بالشيبول” (Chaebols) ، حيث أن المؤسسات الاقتصادية الكبرى توجد في أغلب ملفات الفساد التي تورط فيها سياسيون، ويمكن اعتبار “الشيبول” (Chaebols) أحد النقط السلبية في تجربة الانتقال الديمقراطي بكوريا، فتطورها جاء في كنف السلطة وهي مدينة للمنطق الذي أفرزها، وهو ما يتطابق مع النظرية التي وضعها كارل ماركس منذ 1850 عن “نمط الإنتاج الآسيوي” والتي تقوم على أن المجتمعات الآسيوية قد تم استعبادها من طرف طغمة حاكمة مستبدة تستقر في المدن الأساسية، وتستحوذ بشكل مباشر على فائض المجتمعات القروية ذات الاقتصاد المعيشي الذي يحقق اكتفائها الذاتي، صحيح لم تعد في كوريا مجتمعات قروية تعيش على الكفاف، لكن بنية العلاقات الاجتماعية والتحالفات المرتبطة بالسلطة لم تتغير، وهو ما جعل “الشيبول” نقطة سوداء في مسار الإصلاح السياسي بكوريا.
– العامل الثالث: يعود إلى تأخر ظهور طبقة وسطى في كوريا تحمل هم التغيير، إضافة إلى حاجة المجتمع الكوري بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى دولة قوية تنهي إرث حقبة الاحتلال الياباني وما خلفه من مآسي، فكان الاستقرار وتحقيق النمو الهدف الأساسي.
– العامل الرابع: يتعلق بقوة البيروقراطية في كوريا الجنوبية، والتي تعتبر بحق إلى جانب النخبة العسكرية و”الشيبول” النواة المركزية للبنية السلطوية للنظام وهو ما تسبب أيضا في ضعف اللامركزية في كوريا، وتعود قوة البيروقراطية إلى بداية وضع مخططات التنمية، إذا كانت البيروقراطية هي النخبة التي تدير المخططات وتضع أهدافها، وليس من باب الصدفة أن كوريا تتوفر على أكبر المراكز والمعاهد لتكوين الأطر الإدارية.
لم يتأسس مسار الانتقال الديمقراطي في كوريا الجنوبية بناء على قناعة لدى النخب الحاكمة، بل تحت ضغط الشارع وخاصة الطلبة والطبقة الوسطى الصاعدة، وشكل دستور 1988 نقطة تحول مهمة في هذا المسار، ولعل تحديد مدة الرئاسة في ولاية واحدة من خمس سنوات، كان الهدف منه هو منع أية إمكانية لاستمرار الرئيس في الحكم فترة غير محددة مثل ما حدث سنة 1954 عندما تم إلغاء نظام الولايتين، وهو ما أصبح اليوم مطلبا في كوريا، ذلك أن التغيير في كوريا منذ الجمهورية الأولى، لم يكن يتحقق سوى عبر الانقلابات العسكرية.