لا لتحجيم الحق في الإضراب!
يوما عن يوم، وقرارا بعد قرار، وقانونا تلو آخر، يتأكد بما لا يدع مجالا للشك أن “حكومة الكفاءات”، أسوأ مما كان يتوقع حتى أكبر المتشائمين، وأنها جاءت ليس كما يدعي رئيسها عزيز أخنوش من أجل تحسين ظروف عيش المواطنين والنهوض بأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وبناء ركائز الدولة الاجتماعية، وإنما هي مجرد خدعة أخرى سرعان ما انفضح أمرها، إذ جاءت فقط للإجهاز على ما تبقى من مكتسبات اجتماعية من قبيل الإضراب والتقاعد، وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات…
إذ أنه فضلا عن كون الحكومة دشنت ولايتها التشريعية بسحب مشروع القانون رقم 16.10 المتعلق بتميم وتغيير مجموعة القانون الجنائي، الذي يتضمن من بين مواده مادة حول تجريم الإثراء غير المشروع، من مجلس النواب بطلب من رئيسها، مبررة هذه الخطوة بصعوبة مناقشة مشروع القانون المثير للجدل بشكل مجزأ، وأن الضرورة تقتضي مناقشته في شموليته، فإنها تتجه اليوم إلى “إصلاح أنظمة التقاعد” وتنزيل القانون التنظيمي رقم 15.97 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب.
ويهمنا هنا في هذه الورقة المتواضعة الحديث ولو بشكل مقتضب عن مشروع قانون الإضراب، الذي رغم مصادقة مجلس النواب على النسخة المعدلة منه في 24 دجنبر 2024 بالأغلبية الحكومية، مازال يثير الكثير من الجدل، ولاسيما بعد اعتراض النقابات التي رفضت اعتماد الحكومة على أغلبيتها في تمريره بدل التوافق بين جميع الفرقاء الاجتماعيين وفق مشاورات موسعة وحقيقية، مما اضطرت معه إلى التهديد بالخروج للشارع، احتجاجا على ما تراه قانونا تكبيليا لممارسة الحق في الإضراب الذي يكفله دستور البلاد، بهدف الضغط على الحكومة في اتجاه إقرار قانون عادل ومنصف لجميع الأطراف المعنية.
وفي خضم هذا الغليان سارع وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات يونس السكوري يوم الاثنين 6 يناير 2024 إلى محاولة احتواء التوتر القائم، بإجراء مشاورات مع النقابات الممثلة في مجلس المستشارين، مؤكدا على أن مشروع القانون سيخضع لتعديلات جوهرية إضافية، عبر التفاوض معها ابتداء من يوم الثلاثاء 7 يناير 2024، بالموازاة مع تقديمه أمام اللجنة المعنية يوم الخميس 9 يناير 2024 على أن يتم الشروع في المناقشة العامة يوم الأربعاء 15 يناير 2024
بيد أنه ورغم ما أبداه وزير التشغيل السكوري من تفاؤل مشددا على أن الحكومة والنقابات تحذوهما الرغبة في التوصل إلى قانون تنظيمي للإضراب يخدم الطبقة العاملة والفئات الكثيرة التي تمت إضافتها، ومعربا عن استعداد الحكومة في إطار العمل مع مجلس المستشارين الذي يتميز بوجود تمثيليات للفرقاء والشركاء الاجتماعيين، على الخروج بقانون يرقى إلى مستوى مغرب القرن الواحد والعشرين وتطلعات جميع الشرائح الاجتماعية.
ورغم أن الحكومة عملت ظاهريا على إحياء الحوار الاجتماعي الذي ظل مجمدا في عهد حكومتي “البيجيدي” السابقتين، وإعادة طرح قانون الإضراب الذي تم سحبه من مجلس النواب عام 2016 على طاولة النقاش، وأن رئيسها سبق له أن طمأن المركزيات النقابية، مؤكدا حرصه الشديد على أن يحمي القانون جميع الأطراف المعنية، نافيا فرضية انحيازه لأرباب العمل والمشغلين، فإن النقابات أبت إلا أن تعبر عن امتعاضها وتذمرها من صياغته الحالية، التي لا تستجيب لانتظارات الشغيلة المغربية، ومن طريقة تدبير هذا الملف الشائك…
إذ أنه بالإضافة إلى مقاطعة بعض المركزيات النقابية الكبرى للقاء الذي دعا إليه وزير التشغيل من أجل تدارس مشروع القانون التنظيمي للإضراب، عبرت الجبهة المغربية المناهضة لقانوني الإضراب والتقاعد من جهتها، عبر مراسلة خاصة موجهة إلى رئيس الحكومة أخنوش عن موقفها الرسمي من التعديلات الجديدة المتضمنة في المشروع القانون المثير للجدل، معتبرة أن تقليص مسودته من 49 مادة إلى 35 لا يعني تخليه عن جوهره التكبيلي والتجريمي، حيث استمر تحجيمه من خلال تجريم الإضراب السياسي وحتى الإضراب في مواجهة إجراءات حكومية لها تأثير مباشر على الحقوق والحريات، والإضراب التضامني والدفاعي وغيره من الأشكال النضالية التي كرستها الممارسة النقابية في سائر بلدان العالم، والتي تعتبر منظمة العمل الدولية حظرها إجراء تعسفيا.
فالنقابات لا ترفض تنزيل قانون الإضراب، بقدر ما ترفض تحجيمه بما يخدم مصالح وأرباح أرباب العمل والمشغلين، ويؤدي إلى تسهيل تفكيك ما تبقى من أنظمة الحماية الاجتماعية وتكريس البطالة وتعميق التبعية والقمع والطرد الجماعي، وتطالب بإجراء حوار هادف ومسؤول، بعيدا عن تلك اللقاءات المغشوشة التي تروم الاستهلاك الإعلامي وحسب، حوار جاد بضمانات قوية قصد تجويد الصيغة الحالية لمشروع قانون طالما انتظره المغاربة لإيقاف نزيف الإضرابات والحد من الأضرار الجسيمة التي تخلفها، على أن يأتي بما يعزز هذا الحق الكوني والإنساني والدستوري ويحميه من أي قيود أو تجاوزات، احتراما لسمو الدستور الذي ينص صراحة على ضمان الحريات والحقوق الأساسية، وفي مقدمتها حق الإضراب.
إن أشد ما بات يخشاه المجتمع المغربي بكل مكوناته، وخاصة أولئك الذين ما فتئوا يتجرعون مرارة العيش في ظل التسلط والقهر وتواصل مسلسل غلاء الأسعار وتزايد معدلات الفقر وارتفاع نسبة البطالة إلى أعلى المستويات القياسية غير المسبوقة في عهد حكومة أخنوش، التي تسابق الزمن في اتجاه طي ملفي “إصلاح التقاعد” و”قانون الإضراب”، هو أن تعود ذات الحكومة من جديد في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، لإحكام قبضتها على المواطنين المغاربة قبل حلول موعد مونديال 2030.
اسماعيل الحلوتي