الحزب “الأغلبي” :وهم السلطة وحقيقة الديمقراطية (الجزء الأول)
*عبداللطيف وهبي.
سيظل “بيسمارك” أحد أكثر السياسيين جرأة وفهما للممارسة السياسية، ففي قولة شهيرة له(نعيش في زمن عجيب حيث القوي ضعيف جراء تردده الوسواسي، وحيث الضعيف قوي بسبب جرأته المتهورة) وربما هذه أحسن صورة لواقعنا السياسي، الذي بات يتميز بالكثير من الضجيج المغلف بالتهور اللغوي، والتصارع من أجل هدم الديمقراطية، فالجهل يصادم الجهل، ما جعل محمد عبده في سنوات خلت استنتج على أن الخطاب الديني أسهل طريقة لتقديم العامة لما فيه من ترهيب وترغيب، لتصبح السياسة على أرض المغرب تتسم بالفوضى، فوضى اللغة، فوضى المواقف، فوضى الانتهازية السياسية التي تسعى إلى السلطة أو الحفاظ عليها بأي شكل حتى ولو كان مخالفا لمعايير الديمقراطية نفسها، فيدور السياسيون دوران دون أن يتقدمون في طريق القرار،كما يقول الفقهاء “أكثرهم يعتقد فيستدل وقلما تجد من يستدل ليعتقد”، فهل كل من يمارس السياسة في حقيقته مقتنع بها؟ أم أن السياسيون هم المسئولون الأولون في إلغاء فرصة تطوير ديمقراطيتنا من خلال تصور مؤسساتي مستقل؟ و أما الحفاظ على السلطة بأي شكل في ظل نظام ديمقراطي فقد لا يكون صحيحا بل في حقيقته بدعة قد تلغي المشروع برمته.
إن بعض الخطابات التي ترفع اليوم بغلاف أخلاقي وبدعوى احترام الديمقراطية، مجرد شعارات تختلف واستراتيجيات الأهداف الحقيقية، بحيث يسعى أصحاب هذا الخطاب إلى السيطرة تحت غطاء خلق نوع من التوازن، غير أن خلق هذا التوازن في المجال السياسي لا يمكن أن يوصف بالممارسة السياسية بل يوصف بالصراع، إذ التوازن موضوع النظام وليس موضوع الأطراف السياسية الذين من حقهم البحث عن المواقع بشرط أن لا ينسوا حجمهم السياسي وطبيعة مكوناتهم، لكون طبيعة الصراع السياسي يحول الحزبية إلى سياسة خاصة.
فالصراع السياسي يظل من مهام الأعضاء المتحزبين، أما انتصار الديمقراطية فهي مسؤولية رجالات الدولة، ولأن الديمقراطية تظل مجالا سياسيا عاما يضمن ديمومة الدولة واستقرارها، فالتاريخ سيعاقب حتما العبث السياسي، فعندما منحت صدفة موجة سياسية حزبا ما تمثيلية أكبر من حجمه التاريخي والفكري، قام بتحويل الخاص إلى العام كأنها حالة سياسية طبيعية تجد شرعيتها في التطور التاريخي والحقيقة خلاف ذلك، فأعلن الحرب على أي مساحة تسمح بها الديمقراطية للاختلاف بدعوى مواجهة التحكم، غير أن سلوكهم اليومي هو نوع صارخ من التحكم ذاته “والظلم من شيم النفوس”.
لذلك ينسى هذا الحزب ذاته معتقدا أنه سيصبح القوة السياسية الوحيدة التي قد سيركن إليها النظام، في حين أن النظام السياسي لا يركن إلا لنفسه وله أدوات مختلفة في ذلك، معتمدا على سياسة جيدة تؤسس على التراكم الصبور لدقائق الأمور تسعى وتحرص على أن تكون تصرفاته منظمة ومتناسقة في استراتيجية ذات ترابط منطقي كمفتاح لضمان الممارسة الديمقراطية التي تضمن إمكانية جعل المؤسسات تشتغل في إطار الدولة بشكل سلس ومؤسساتي، في حين تظل الأحزاب تفقد القدرة على ربط الصلة بين الأحداث، مما يقوض إمكانية ذلك الانسجام المنطقي للسياسة الحزبية جمعاء، خاصة وأنها كثيرا ما تضع خططا سرعان ما تتفكك حينما ترتطم بتناقضات الواقع، فالممارسين الحزبيين في المغرب تحكمهم الآنية والجزئية، بينما المنظرين السياسيين في نفس الأحزاب تحكمهم المستقبلية والعمومية، فيجد العضو الحزبي نفسه بين نظريات لا تنفذ في مواجهة واقع لا يزيد إلا إبهاما، وهذا ما يعرقل إمكانية خلق رؤية حزبية بعيدة المدى، شاملة القضايا مقابل الخنوع إلى إكراهات صنع قرارات يومية محدودة من حيث الزمان ومن حيث الفاعلية، لذلك نعتقد أن الحروب المعلنة اليوم من طرف الحزب المعلوم، هي حروب خطأ في مكان خطأ وفي زمان خطأ ومع عدو خطأ، مما يفقده الرؤيا إلى طبيعة الديمقراطية الحقيقية ويختزلها بكل مكوناتها في مدى قدرته الذاتية على الحضور السياسي، غير أنه بهذا السلوك يريد أن يوظف كل قواه من أجل هزم الجميع، بينما دلالة الديمقراطية فلا تمكن في مفهوم هزيمة الآخرين، ولكن في القدرة على إدارة الخلاف السياسي داخل المؤسسات بشكل ديمقراطي وفي جميع اللحظات، وحين ذاك سيتحول الانتصار الحزبي السياسي من خلال الديمقراطية إلى قمة المهارة السياسية، غير أن الديمقراطية التي يرفعونها كشعار والتي وصفتها إحدى المؤسسات القضائية الدولية بكونها ذلك النظام السياسي الذي يقبل بنقيضه ويستوعبه، فهي عند هذا الحزب إلغاء للآخر، من خلال استعداده الذاتي والسياسي لصراع ينسيه في كثير من الأحيان من هي الأطراف التي يصارعها أو حتى التي يدعي أنه يصارع من أجلها، فيخلط الجميع في سلة واحدة لينتهي به الأمر إلى الانزواء أو رفض الجميع له.
* محام ونائب رئيس مجلس النواب باسم الأصالة والمعاصرة.