في الحاجة إلى العقل السياسي القاعدي
المريزق المصطفى
أكيد، لا ولن أخفي تقديري للمدرسة القاعدية التي تربيت في أحضانها، وتعلمت الشيء الكثير من صوابها وأخطائها.
كان ذلك بجامعة ظهر المهراز، أيام وسنوات ثمانينات القرن الماضي، يوم إنخرطت بكل براءة في صفوف فصيل الطلبة القاعديين، قادما من جبالة بني زروال، متأبطا عودي وكتب الحب والتاريخ، حالما بالحرية والعيش الكريم.
سنوات قضيتها أتعلم دروسي الأولى في النضال التحرري البسيط، المطبوع بالبراءة وثقافة الوحدة داخل التنوع، منبهرا بأطر ونخب القاعديين الذين كانوا في مستوى عالي من التكوين السياسي والثقافي والقانوني والاقتصادي، ولم يكن أحدا يقوى على تجاوزهم أو يتنكر لعطاء اتهم .
نعم لم يكن هناك أحدا يضاهي النخب القاعدية في المرافعات النقابية في ارتباطها الجدلي مع قضايا وهموم الشعب، انطلاقا من الشعار التاريخي الموشوم في ذاكرة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (اوطم):”لكل معركة جماهيرية صدى داخل الجامعة”.
عشرات المناضلين والمناضلات، وشموا ذاكرة القاعديين الجماعية، في زمن كان النضال التزام ومبادئ وليس بطاقة حزبية وولاء للشيخ والمريد، وتسابق على كراسي البرلمان.
و أنا أعود بذاكرتي إلى الوراء من جديد، أستحضر صور شهداء النهج القاعدي: الدريدي وبلهواري وايت الجيد والمعطي بوملي و شباضة و زبيدة ومصطفى المزياني، وكل شهداء الشعب المغربي.. وكل ضحايا النضال والمقاومة من أجل مغرب حقوق الإنسان والديمقراطية، أعترف – مرة أخرى – بتجربة المدرسة القاعدية التي أعلنت منذ أربعين سنة عن تشبثها بالوطنية المغربية وانحيازها للديمقراطية والحداثة، وافتخارها واعتزازها بالعقل السياسي القاعدي في مواجهته السلمية والفكرية والثقافية والسياسية للإسلاموية وللظلامية والرجعية وحلفائها.
فرغم القمع والتضييق والاعتقال والمحاكمات الصورية، تابعت المدرسة القاعدية انتشارها خارج الجامعة، واختار العديد من مناضليها القاعديين، بعد الجامعة، بعث وتوسيع الشعور الوطني في العديد من الفضاءات، وتبني الديمقراطية، مؤمنين بالنهج الحداثي وبالأفكار التنويرية.
و رجوعا إلى ذلك التاريخ، وإلى الواقع الموضوعي الإقليمي والمجتمعي والدولي، أستحضر تضحيات المناضلين في ظل موازين قوى مختلة، وفي غياب تام لأبسط آليات الديمقراطية وفي ظل انتشار واسع للهدر المستمر لحقوق الإنسان ببلادنا، وفي ظل الصراع السياسي على السلطة وحلم التغيير، وفي سياق الديناميات الاجتماعية المختلفة التي أطلقت شرارة التغيير من قلب الصراع، وصنعت أشكالا و محطات متنوعة منه.
إن استحضار هذه التجربة اليوم، هو استحضار لروح المقاومة القاعدية (كيفما كانت التقييمات الداخلية منها و الخارجية) التي تربينا في أحضانها دفاعا عن الوطن، ضد العنف والاستبداد والإرهاب بكل أنواعه وأشكاله. وهو استرجاع الثقة في آليات الدفاع الذاتي، في إطار البديل التكاملي مع القوى الديمقراطية المتواجدة في بلادنا، ونعني به كذلك البديل من أجل الديمقراطية وتحصين المكتسبات الحقوقية والثقافية والفكرية في مغرب يتسع للجميع.
و لترسيخ هذه الثقة، سعى العقل السياسي القاعدي عبر التاريخ، إلى دعم حركة اليسار الجديد سواء ما تبقى من التنظيمات أو الإرث البرنامجي والإيديولوجي لليسار الجديد في إطار الاحترام و الاستقلالية، و من دون الانزلاق في تمجيد النزوع الهيمني لأي طرف من الأطراف. وهذا ما جعل القاعديين حركة ديمقراطية حرة، تؤمن بالخلق والإبداع، منتشرة في كل زمان ومكان، وتعتبر كيانها ليس مشكلة وإنما هي جزء من حل المشكلة.
إن حالة الانفراج الديمقراطي الذي تعيشه بلادنا منذ العهد الجديد، يجب أن نعتبرها، وبكل شفافية وجرأة موضوعية، ثمرة تضحيات أجيال المناضلين الوطنيين الأحرار، ولهذا لن نسمح لأي كان بالإجهاز على كل المكتسبات الديمقراطية، و لن نسمح لكل من يريد السطو على شرف هذا التاريخ الكفاحي باسم أي دين من الأديان ولو تطلب منا الشهادة.
لن نسمح لتجار الدين بالعبث بأمن واستقرار البلاد، لأن شعبنا طيب و” الطيبة فيه بلوة” (كما يقول الشيخ إمام محمد عيسى).
إن هذه المحطات المهمة في تاريخ بلادنا، يجب علينا فهم سياقاتها انطلاقا من إدراكنا لتطور الدولة المغربية نفسها، ولتطور الصراع الذي نشأ عنه باستمرار الإحساس بالجماعة و الحفاظ على وحدة الوطن أولا و حمايته ثانيا ونصرته ثالثا.
كما يعتبر التطور السياسي الذي و صلت إليه بلادنا اليوم، سبيلا لتحقيق التطور الديمقراطي المنشود، الذي يجب تعزيزه بدولة المؤسسات وبإصلاحات دستورية أكثر جرأة لتقوية الضمانات الدستورية لحقوق الإنسان وتجريم كل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والانتقال من الصراع على السلطة إلى المشاركة فيها والمشاركة في إدارتها من مواقع مختلفة. وفي هذا الصدد ، لا بد من استحضار دور ومساهمة جمعيات المجتمع المدني في العمل البديل. تلك المشاركة القاعدية للجمعيات الجادة، الحاملة لمشاريع، مواطنة قاعدية تنهج سياسة القرب، و تعتني بكل القضايا من منطلق إنساني و اجتماعي و ليس ديني أو سياسوي انتخابي. إنها الجمعيات والمنظمات المناضلة التي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.