غمة بنكيران وانزاحت
سعيد الكحل
شكرا أيها الملك لأنكم أزحتم عن الشعب المغربي غمّة كتمت أنفاسه خمس سنين وأثقلت كاهله بالديون. أكيد كانت أمام الملك خيارات عدة يتيحها له الدستور، بمنطوقه وبروحه، كما تسمح بها الأعراف والقواعد الدستورية في الدول الديمقراطية. ولم يكن الملك ملزما بتعيين شخصية ثانية من الحزب نفسه لتشكيل الحكومة طالما بنكيران فشل في تشكيلها، على اعتبار أن الفشل يتحمله الحزب وليس أمينه العام.
فالحزب بكل أجهزته التقريرية ساند أمينه العام في كل قراراته واشتراطاته ومراوغاته، لكن الملك يؤسس لعرف دستوري لم تتضمنه الوثيقة بعد حالة البلوكاج التي خلقها بنكيران وشرنق فيها الوطن ومصالحه العليا وعطل المؤسسات الدستورية (البرلمان، الحكومة)، بل إن البلوكاج البنكيراني أفلس مقاولات وشرد آلاف العائلات دون أن يكترث للمصالح الاجتماعية والوطنية.
فحالة الاستثناء التي فرضها استبداد بنكيران برأيه على المغرب لم تكن لتنتهي إلا بتدخل الملك؛ إذ كان من المفروض في الشخص المكلف بتشكيل الحكومة أن يرجع إلى الملك ويعلن فشله قبل انصرام 30 يوما على الأكثر حتى لا يجعل مصلحة الحزب فوق مصلحة الوطن ومصلحة الفرد فوق مصلحة الشعب. لكنه لم يستفد من دروس غيره في الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، وبدلا منها اتخذ له من ابن تيمية مرجعه الأسمى ليهدد بفتاواه الملك والشعب والوطن.
تهديدات بنكيران لا يسمح بها الدستور ولا القيم الديمقراطية ولا الحياة السياسية للمغرب؛ فأن يجعل السلطة ورئاسة الحكومة غاية يموت من أجلها أو ينفى بسببها أو يسجن دونها، أمر يعيدنا إلى دولة الغزوات، الدولة الدينية وليس الدولة المدنية التي ينظم شؤونها دستور وقوانين ومؤسسات.
لم يستح بنكيران وهو يعلن تهديده بأن السجن له خلوة وأن النفي سياحة وأن الموت شهادة في سبيل السلطة والحكم؛ فكيف له أن يظل يحمل هذه العقائد ويعلن عنها وهو الشخصية الثانية في الدولة يدير شؤونها؟ ما الفرق بين تهديدات المتطرفين وتهديدات بنكيران؟ كلاهما مستعد للموت أو ضرب الأعناق من أجل السلطة.
لقد رحل بنكيران وهو يجر خيباته وتطارده لعنة السلطة وسخط الشعب دون حتى شرف استقباله من طرف الملك. وكيف للملك أن يستقبل شخصا يهدد عرشه ويعرض مُلكه للخطر بفعل التهديدات التي تتغذى على فتاوى ابن تيمية وجرائم داعش الوحشية؟
بنكيران كان يدفع الشعب المغربي إلى التمرد على أوضاعه الاجتماعية التي وصلت حدودا لا تطاق. تلكم كانت مخططاته منذ تشكيل لجنة مراجعة الدستور حين هدد بعودة الربيع العربي إلى المغرب إذا لم تأخذ اللجنة باقتراحاته، وفعلها بشكل سافر وسافل قبيل الانتخابات التشريعية حين هدد بجعل الشعب المغربي يدفع الثمن إذا لم يتصدر حزبه نتائج الانتخابات، بل تعالى على الجميع، شعبا وملكا ودستورا، لما أعلن أنه “خدّام مع الله”.
هكذا جعل نفسه ممثلا لله في الأرض يستمد منه العون والمدد، وليس ممثلا للشعب الذي منحه جزءا من أصوات الناخبين لإدارة شؤونه بما يخدم مصلحة الوطن. حقا لم تكن تهم بنكيران مصلحة الشعب ولا جعلها ضمن أولوياته. كان يخدم أجندات خارجية، منها ما تمليه الدوائر المالية العالمية ومنها ما تفتي به جماعة الإخوان الدولية في كل من مصر وقطر وتركيا؛ فمن هناك كان يتلقى التوجيهات وإليهم كان يقدم الخدمات.
رحل إذن بنكيران لكن ترك وراءه مآسي للشعب ودروسا لمن سيتولى المنصب. أما عن المآسي فهي لا تعد ولا تحصى، مست معظم شرائح المجتمع وفي مقدمتها فئات الموظفين الذين أجهز على كل مكتسباتهم المادية والاجتماعية بقرارات انفرادية تجاوز فيها الديمقراطية التشاركية التي ينص عليها الدستور، بل لم يستجب لتوصيات واقتراحات لجان التقصي في ما يخص إصلاح أنظمة التقاعد. فكان الموظف كبش فداء لتغطية العجز الذي تسبب فيه الفساد والنهب وسوء التدبير.
أما بخصوص مدى دستورية إعفاء بنكيران، الأمين العام للحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات، بعد فشله في تشكيل الحكومة وتعيين شخصية من الحزب الثاني، فيمكن استحضار التجربة الإسبانية القريبة منا جغرافيا وزمنيا؛ حيث شهدت في 20 ديسمبر 2015 الانتخابات العامة التي تقدم فيها الحزب الشعبي بـ123 مقعدًا من أصل 350 مقعدًا، ما يعني أنه فاز لكنه لم يحقق أغلبية مطلقة مريحة، فيما توزعت المقاعد بين الحزب الاشتراكي بـ90 مقعدًا وحزب بوديموس بـ59 مقعدًا وحزب سيودادانوس بـ40 مقعدًا.
وبالمناسبة الفارق في المقاعد بين “البيجيدي” و”البام” أقل من الفارق بين الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي. وطبقا للدستور كلف العاهل الإسباني فيليبي السادس، ماريانو راخوي، زعيم الحزب الشعبي بتشكيل الحكومة. وبعد فشل راخوي في تشكيل أغلبية، وقبل حتى أن يلجأ إلى البرلمان، انسحب من الموضوع.
وهنا الفرق بين بنكيران الذي ظل متشبثا بالمنصب وبين راخوي الذي أعلن الفشل. حينها كلف الملك الإسباني رئيس الحزب الثاني في الانتخابات بتشكيل الحكومة دون أن يعين شخصية ثانية من الحزب نفسه. ولم يتهم أي حزب الملك بخرق الدستور.
إذن، أن يعين ملك المغرب شخصية من الحزب الثاني لتشكيل الحكومة بعد فشل بنكيران ليس بدعة ولا خرقا لا للدستور ولا للأعراف الديمقراطية أو القواعد الديمقراطية، أو حتى لمنهجيتها. لكن الملك اختار أن يعطي لـ”البيجيدي” فرصة ثانية عله يستفيد من الدرس ويستخلص العبرة من نهاية العجرفة والاستبداد البنكيراني.