فرنسا:”إلى الأمام” .. البديل السياسي المنتظر
عبد الصمد بن شريف
عندما أعلن عن تأسيس حركة إلى الأمام منذ حوالي سنة بفرنسا بقيادة إمانويل ماكرون، اعتقدت أحزاب عدة أن هذا المولود لا يعدو أن يكون ظاهرة إعلامية منفوخا فيها ومبالغا في تقدير وزنها وفعاليتها، لكن سرعان ما ثبت أن ما أصبح يوصف من طرف بعض الفاعلين الحزبيين والخبراء والمحللين بالوافد الجديد المضاد للنظام، تحول إلى ظاهرة سياسية بدأت في إزعاج وإحراج القوى السياسية التقليدية لتكرس نفسها قوة انتخابية احتل مرشحها للرئاسة الرتبة الأولى في الدور الأول.
فهل تقدم حركة إلى الأمام وتمكنها من اختراق المشهد السياسي الفرنسي بسرعة فائقة يعكس رغبة من صوتوا لصالحها في التجديد والقطع مع الممارسات الحزبية الكلاسيكية؟ وهل استفاد زعيم هذه الحركة المثيرة للجدل من الأزمات والاختلالات التي اعترت معظم الأحزاب التاريخية والتقليدية يسارها ويمينها ووسطها والتي ظهرت بمظهر باهت ومهترئ ومفكك في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الذي جرى يوم 23 أبريل الماضي؟
هل حركة إلى الأمام جاءت بمشروع ورهانات محددة ومجددة، أم إنها تجميع غير طبيعي لكائنات سياسية وانتخابية متنافرة فكريا وإيديولوجيا، وإطار لتفاعل المصالح المتداخلة لعدد من الفاعلين المؤثرين وتقاطع لمسالك انتهازية عبرت عنها وجوه سياسية انقلبت بسرعة وتمردت على تنظيماتها الأصلية؟
معظم الخبراء والمحللين يرون أن حركة إلى الأمام منتوج سياسي انتخابي خالص لسياق متعثر لليسار الحكومي واليمين الجمهوري، وجاءت هذه الحركة لتستفز بشكل إيجابي وبنّاء، حسب نشطائها وقيادييها، الأحزاب التقليدية ولتطرح أسئلة محرجة بخصوص طرائق اشتغال السياسية وتدبير الاقتصاد والتفاعل مع مكونات المجتمع الفرنسي.
فالحركة تتبنى استراتيجية تواصلية تعتمد فيها على خطاب جديد جريء وواقعي وبراغماتي وبسيط وقريب من انشغالات الفئات العريضة من المجتمع بعيدا عن الوعود الفضفاضة واللغة المشحونة بالديماغوجية، وتتوجه نحو المستقبل وتنتصر لمقاربة مفادها أن مصلحة الفرنسيين تكمن في تبنّي اختيارات صريحة وشجاعة وإجراءات ملموسة ودقيقة، بما في ذلك التمسك بالانتماء إلى الفضاء الأوروبي.
وتحرص حركة إلى الأمام عبر كوادرها في كل مناسبة على القطع مع أمجاد الماضي السياسي وأساطيره، وهذه الجاذبية في العرض السياسي الذي اقترحته خلقت دينامية في الحقل السياسي، غير أن هذه العناصر التي يعتبرها المراقبون إيجابية، إذا لم تستمر وتستثمر بطريقة جيدة، فإنها ستنقلب إلى سلاح يرتد إلى صدر الحركة لتكون هي أول ضحاياها.
من المؤكد أن سوق العرض والطلب في ميدان السياسة لا يتشكل من سلع استهلاكية قابلة للتسعير والاستيراد والتصدير، وإنما من خلاصات تجارب إنسانية وأفكار ومشاريع وبرامج مقنعة وذات جاذبية، أحسن ما فيها أن الديمقراطية اختيار لا بديل عنه، لكن هذا الاختيار يصبح إكراها سيئا حين ينحرف عن مساره السليم ومبادئه السامية، الأفكار تصبح مغرية بالقدر الذي يجعلها قابلة للتنفيذ.
بدون شك، عندما أنشئت حركة إلى الأمام، سيطر التوجس والشك على العقل الحزبي الفرنسي الذي ألف السكون والجمود والاطمئنان إلى مسلماته السياسية وأسسه الإيديولوجية و”الأوتوبيات” التي طالما دافع عنها، خاصة وأن هذا المشروع الذي ينطوي على خاصية التجديد والتشبيب جاء في مرحلة بدأ فيها الحقل السياسي يعرف شبه فراغ على مستوى المشاريع الإصلاحية الكبرى، كما يذهب إلى ذلك عدد من الخبراء الملمين بتطور النظام السياسي الفرنسي الذين لا حظوا أن الأحزاب السياسية التقليدية على امتداد سنوات لم تغتنم الفرصة ولم تبذل جهدا كبيرا لفتح نقاش وطرح تصور إصلاحي مبني أساسا على التحولات الكبرى التي طالت مختلف المنظومات والبنيات ومستند إلى ما أفرزته الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية من تداعيات وآثار سلبية، أي ما يوجد حاليا في فرنسا في المجال السياسي العام، هو نوع من الخصاص والعجز المزمن على مستوى المشاريع والمبادرات والاجتهاد في ابتكار الحلول.
وبناء على عدد من القرائن، فإن حركة إلى الأمام بزعامة إمانويل ماكرون أجرأة سياسية لعدد من الأهداف والأجندة التي يقف وراءها جزء كبير من أقطاب الحزب الاشتراكي ومن آفاق حزبية أخرى، إضافة إلى بنية صلبة من التكنقراطيين، خاصة أن ماكرون، الوزير السابق في حكومة فرانسوا هولاند مهندس حركة إلى الأمام، قرأ حاجيات حلفائه بحكم القرب منهم.
وبما أن الحقل السياسي يشكو من الفراغ بسبب فشل الأحزاب السياسية التقليدية واحتدام الصراع بين قيادييها، كان لا بد من التفكير في معادلة بديلة وإنتاج ممارسة سياسية جديدة، رمزها ومجسدها الأكثر حظوة وقدرة على خلق المفاجآت هو ماكرون، كتعبير عن وجود حاجيات سياسية جديدة داخل المجتمع، بما في ذلك الحاجة إلى قيادة تشتغل بمنطق مغاير وعصري، منطق المصرفي الذي خبر أسرار المال والأعمال ويتقن لغة الأرقام والمؤشرات.
ما يثر الانتباه خلال قراءة المسار القصير لحركة إلى الأمام هو أنها تحولت عمليا إلى الحزب البديل الكفيل وحده بتدبير شؤون فرنسا بشكل مغاير، والحزب السري والحزب الوحيد والحزب الذي لا يحتاج إلى قواعد بشرية بالمعنى التقليدي ولا يخضع لمنطق اللعبة السياسية بالشكل المتعارف عليه، إلى درجة أن هناك من رأى في انتصار الحركة في الدور الأول، عبر مرشحها للرئاسة ماكرون، تجسيدا لحالة من الغموض والضبابية في المشهد السياسي الفرنسي، رغم انتشاء أنصار وقواعد الحركة بما قطفته في زمن قياسي، علما أن الركام الهائل من أدبيات وبيانات وحوارات ولقاءات قيادة الحركة أكدت وتؤكد على كونها لم تأت لضرب الأحزاب الأخرى بشكل صريح ومباشر، بل هي فرصة نادرة لخلخلة المشهد السياسي الذي دخل في أزمة حادة ومسترسلة منذ رئاسيات 2007.
من المؤكد أن الممارسة السياسية الشفافة والديمقراطية تقتضي أن تكشف الأحزاب عن الأرقام الحقيقية لمنخرطيها الذين من المفروض أنهم يشكلون النواة الصلبة لوجودها في الحقل السياسي، لكن يصعب على حركة إلى الأمام أن تجيب عن هذا السؤال في الوقت الراهن؛ لأنها لم تأخذ بعد الشكل النهائي الذي يمكن أن تؤول إليه، خاصة وأن ماكرون الذي وصل إلى قصر الإليزيه بنسبة أصوات مريحة، يحتاج إلى أغلبية برلمانية في الجمعية الوطنية، ما يعني تحويل حركة إلى الأمام إلى تنظيم سياسي مشكل من كل ألوان الطيف ومن شتى المرجعيات والتجارب؛ فكل الأحزاب لها منخرطوها وقواعدها حتى وإن لم يمض على ولادتها سوى شهور قليلة، ولا قيمة هنا لعدد الأعوام والعقود والخبرة السياسية والتراكمات الثقافية والاختيارات الإيديولوجية، مادامت العبرة في القيمة المضافة والأمل الذي يسوقه هذا الحزب أو ذاك.
إن الأحزاب، كما هو معروف في الأدبيات السياسية، هي تجسيد للجغرافيا الاجتماعية في أي بلد، وهي في الآن ذاته فضاءات لنقاش مسؤول حول توجهات واختيارات وبرامج تشمل كل المجالات وهي، أي الأحزاب، ضرورية بغض النظر عن أخطائها وهفواتها؛ لأنه لا يمكن للديمقراطية أن تشتغل بشكل جيد بدونها، بل هي العمود الفقري للديمقراطية.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن مانويل ماكرون مطالب بتحديد هويته السياسية والإيديولوجية لكي يكون مشروعه منسجما مع الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، حتى لا يتحول إلى عائق في وجه التطور الديمقراطي كما يتوجس العديد من الفاعلين، وحتى لا يصير مع مرور الأيام مجرد ديكور باهت في المسرح السياسي. وهذا ما يحتم على حركة إلى الأمام، حسب الخبراء، اعتماد صيغ بديلة في العمل السياسي، بما في ذلك تكوين تكتل يضم كل الحساسيات في إطار واحد يِؤمن بتعدد الآراء والتيارات.