قال الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة بمناسبة الدورة 61 للمؤتمر الدولي للقضاة بمراكش، ” أن أشغال هذا المؤتمر العالمي تعد فرصة سانحة لتبادل الخبرات والتجارب بين مختلف المشاركين، وكذا لمناقشة التحديات التي تواجهها العدالة، والقضايا المشتركة بين القضاة في مختلف دول العالم. وهي مناسبة كذلك أستغلها للترحيب بالمشاركين الذين جاؤوا من مختلف قارات العالم، متمنيا لكم إقامة سعيدة بهذه المدينة الساحرة التي لابد وأنكم ستحملون منها ذكرى للتاريخ. كما أتوجه بالشكر للودادية الحسنية للقضاة، ولرئيسها عبد الحق العياسي الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء، وعضو النيابة العامة المحترم من أجل الدعوة الكريمة.
واضاف عبد النباوي” يأتي عقد هذا المؤتمر متزامنا مع مرور سنة كاملة على استقلال قضاء النيابة العامة بالمملكة المغربية عن السلطة التنفيذية.
فقد كانت الدساتير المغربية المتعاقبة منذ أول دستور سنة 1961 إلى الدستور الخامس )1996(، الذي ظل العمل جاريا به إلى منتصف سنة 2011، تنص جميعها على استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولكن تطبيق هذا المقتضى الدستوري اكتفى بمنع تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في أحكام القضاة، دون أن يحول وقيام وزير العدل – وهو عضو بالسلطة التنفيذية – بمهام أساسية في المشهد القضائي. فهو الذي كان يرأس المجلس الأعلى للقضاء، كما أن وزير العدل كان يعتبر بمثابة الرئيس الأعلى لقضاة النيابة العامة يملك سلطة توجيه مهامهم وإعطائهم أوامر وتعليمات، كانوا ملزمين قانونا بتنفيذها. ولذلك فإن القضاء بفرعيه قضاء الحكم وقضاء النيابة العامة قبل دستور 2011، كان يعتبر مجرد “مهمة” تملك السلطة التنفيذية صلاحياتٍ هامة وأساسية في تسييرها وتدبير شؤون أعضائها، ولم يكن سلطةً من سلطات الدولة. وكان هذا الوضع محل نقاشات مجتمعية على كافة الأصعدة وكل مستويات الدولة، حتى أصبح قراراً من قرارات الدولة التي يتوقف عليها إصلاح المنظومة القضائية بالبلاد. وقد حمِل مشعلَ الإصلاح جلالةُ الملك محمدُ السادس منذ اعتلائه عرش أسلافه في 30 من يوليوز 1999، وأكد جلالته على أهمية القضاء في كل الإصلاحات المجتمعية، الاقتصادية والسياسية والثقافية في العديد من خطاباته السامية .”
واضاف عبد النبوي” وصل اهتمام جلالة الملك بموضوع إصلاح القضاء أن خصص له خطابا كاملاً في ذكرى ثورة الملك والشعب يوم 20 غشت سنة 2009. حيث وضع جلالته برنامجا شاملاً لإصلاح القضاء، حدد له ستة محاور أساسية. كان أولها هو دعم ضمانات الاستقلالية، وذلك بتخويل المجلس الأعلى للقضاء )آنذاك( حصريا، الصلاحياتِ اللازمة لتدبير المسار المهني للقضاة.
وقد فتح هذا الخطاب الباب على مصراعيه لانطلاق مشاريع إصلاح العدالة واستقلالها. فجاء دستور فاتح يوليوز 2011 لينص على إحداث سلطة قضائية موحدة بالبلاد تضم قضاء الحكم وقضاءَ النيابة العامة، باعتبار القضاء جسماً واحداً. واعتبر الدستورُ السلطةَ القضائية هي السلطة الثالثة بالدولة، وجعلها مستقلةً عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. ونص على أن جلالة الملك هو ضامن استقلالها. ووضع بذلك الأسس لتجسيد هذا الاستقلال على أرض الواقع.
وابرز عبد النباوي ” وشهد المغرب خلال سنتي 2013 و2014 حوارا وطنيا شاملاً حول إصلاح منظومة العدالة انتهى إلى إعطاء تصور واضح لتفعيل هذا الإصلاح، تجسد في ميثاقٍ وطني تبنته لجنةٌ عليا للحوار الوطني، وقد وَجَدَتْ توصياتُ هذه اللجنة المتعلقة بتفعيل استقلال السلطة القضائية طريقها إلى القانونين التنظيميين، الأول المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والثاني بالنظام الأساسي للقضاة. فتمخض على ذلك تأسيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي خوله القانون تدبير الوضعيات المهنية لجميع القضاة )سواء قضاة الحكم أو قضاة النيابة العامة(، وكذلك حماية استقلال القاضي، ووضع تقارير بشأن الأمور ذات الصلة بالقضاء وشؤون العدالة والحريات. وتم تنصيب المجلس الأعلى يوم سادس أبريل 2017، لتغادر السلطة التنفيذية تدبير شأن الوضعيات المهنية للقضاة، ولكن وزير العدل ظل يمارس سلطاته على قضاة النيابة العامة إلى يوم سابع أكتوبر 2017. وهو التاريخ الذي حدده القانون لنقل السلطات على أعضاء النيابة العامة من الوزير )عضو السلطة التنفيذية( إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض )عضو المجلس الأعلى للسلطة القضائية(. لتستكمل السلطة القضائية بذلك استقلالها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وينتقل تدبير أمورها إلى المؤسسات القضائية )المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة..”
وقال عبد النباوي” لئن كان الدستور ثم القانون المغربي قد حقق للقضاءِ الاستقلالَ المؤسساتي، وجعله سلطة دستورية قائمة الذات، مستقلة كل الاستقلال عن البرلمان والحكومة، فإن هذا الاستقلال لا يحول دون تعاون السلطات في إطار التوازن، بحيث تتعاون سلطات الدولة الثلاث لتنفيذ السياسات العامة للدولة، وتؤدي كل سلطة واجبها المنوط بها دستوريا بما يكفل سلامة تدبير الشأن العام، في الحدود المرسومة بمقتضى القوانين، وفي مقدمتها القانون الأساسي للمملكة الذي يضمن استقلال السلطة القضائية.
ومن جِهة أخرى فإن الدستور لم يكتف بضمان الاستقلال المؤسساتي للسلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولكنه أوجد كذلك الآليات المناسبة لضمان الاستقلال الذاتي للقضاة، حيث منع كل تدخل في أحكام القضاة أو التأثير عليهم، ووفر لهم حصانة من النقل والعزل. كما حدد القانون التنظيمي معايير وشروط لتدبير الوضعية المهنية للقضاة، ومكنهم من مخاطبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية مباشرة كلما كان استقلالهم محل تهديد. وجعل المجلسَ مسؤولاً عن حماية هذا الاستقلال، الذي نص الدستور على أن جلالة الملك – رئيس المجلس – ضامناً له.
واكد مَحمد عبد النباوي” إن قضاة النيابة العامة بالمغرب يؤمنون بأهمية دورهم في حماية الحقوق والحريات، وفي مكافحة الجريمة، وفي توفير الأمن واستثباب النظام، حتى ينعم المواطنون بحقوقهم وحرياتهم، وقد عقدوا العزم على مواصلة نضالهم من أجل فرض سيادة القانون، مسلحين بدعم جلالة الملك المؤيد بالله، وبما وفره الدستور والقانون من إمكانيات وآليات، متشبثين بوحدة السلطة القضائية واستقلالها.