كلمة رئيس النيابة العامة خلال أشغال ندوة حول حقوق الإنسان والتحدي الرقمي
افتتحت أشغال ندوة حول حقوق الإنسان والتحدي الرقمي
بمقر منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة، اليوم الثلاثاء 16 مارس 2021.
وفي هذا الصدد وجه الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة كلمته والتي جاءت على الشكل التالي:
باسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين
-السيد وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان؛
-السيدة رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان؛
-السيد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة؛
-السيد رئيس اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي؛
– حضرات السيدات والسادة؛
يشرفني أن أشارك معكم اليوم في افتتاح أشغال هذه الندوة حول موضوع “حقوق الإنسان والتحدي الرقمي”. وهو موضوع ذي أهمية بالغة بالنظر للتطور المذهل للتكنولوجيات الرقمية والذي تفوق سرعته أي اختراع آخر في تاريخ البشرية. مما أحدث تحولاً سريعا في المجتمعات وأدى إلى تيسير تحقيق التطور والتقدم على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية. غير أن هذه التكنولوجيا تطرح في نفس الآن، تحديات جديدة وخطيرة، تستلزم توفير كل الإمكانيات لمواجهتها دوليا وإقليميا ووطنيا، وتأمين استخدامها حتى لا تستعمل استعمالات ضارة بالإنسان.
وفيما يتعلق بعلاقة حقوق الإنسان بالفضاء الرقمي والتكنولوجيا الرقمية، يمكن الجزم أن ما ينطبق على حقوق الإنسان من حيث ممارستها وضمان التمتع بها خارج الفضاء الرقمي، ينطبق عليها كذلك داخل هذا الفضاء، إذ بقدر ما تمكن هذه التكنولوجيات من تيسير الولوج إلى مختلف أنواع حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، المحمية بمقتضى معاهدات حقوق الإنسان الدولية، بقدر ما يمكن أن يتحول استعمالها إلى أداة لانتهاك العديد من الحقوق والمساس بالنظام العام.
لقد مكن الفضاء الرقمي، من تعزيز الولوج إلى العديد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إذ على سبيل المثال لا الحصر، ساهم في النهوض بالحق في التربية والتعليم، بما يوفره من إمكانات لتوفير المعلومات والدراسات والأبحاث وتيسير الولوج إليها. كما يسرت وسائلُ التعلم الافتراضي والتعلُّم عن بعد، إمكانيةَ ولوج العديد من الأشخاص لبرامج تعليمية كانوا سيتعرضون بدونها للحرمان من هذا الحق.
كما أضحت التكنولوجيات الرقمية وسيلة لدعم التنمية. وكذا المساهمة في تأمين التمتع بالعديد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كالحق في الشغل والصحة وغيرهما. ففي قطاع الصحة، على سبيل المثال، تساعد التكنولوجيات الرائدة التي يدعمها الذكاء الاصطناعي في إنقاذ الأرواح وتشخيص الأمراض والعلاج والجراحة.
ويجب الاعتراف، كذلك، أن التكنولوجيات الرقمية أصبحت وسيلة لممارسة العديد من الحقوق المدنية والسياسية الأساسية كحرية الرأي والتعبير، والصحافة والنشر، والحق في الحصول على المعلومة. بل إنها تمثل عاملاً كبيراً في تحقيق المساواة من خلال تعزيز الاتصال الإلكتروني والشمول المالي وإمكانيات الوصول إلى الخدمات التجارية والعامة.
حضرات السيدات والسادة؛
إذا كانت الآثار والانعكاسات الإيجابية للتكنولوجيات الرقمية على حقوق الإنسان واضحة كما سبق، فإن هذه التكنولوجيات تحمل معها تحديات جديدة، تتجلى في ظهور أخطار وتهديدات يمكن أن تقوض أمن الدول والمجتمعات والمساس بحقوق الإنسان الأساسية للأفراد، بل قد يؤدي سوء استخدامها إلى حدوث انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في بعض الأحيان.
ومن بين مظاهر ذلك، أصبح الفضاء الرقمي مجالاً للمساهمة في ارتكاب جرائم أو التحريض على ارتكابها تكون ماسة بالحق في الحياة وبالسلامة الجسمانية للأفراد وممتلكاتهم والجرائم المالية، من خلال أنشطة الشبكات الإجرامية. وأشكال أخرى من انتهاكات حقوق الإنسان كالتحريض على التمييز والكراهية ونشر الأخبار الزائفة والسب والقذف والتشهير وأشكال التعبير المسيئة للأفراد وانتهاك الحياة الخاصة بهم.
هذا فضلا عن ترويج المخدرات والاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي للأطفال. ودعم المواد الإباحية وأنشطة التنظيمات الإرهابية، حيث يتم استغلال انتشار وسائل الاتصال الحديثة وسهولة الوصول إلى الانترنيت والبرمجيات الرقمية للتجسس والاختراق وإخفاء الهوية.
حضرات السيدات والسادة؛
بما أن الاستخدام السيء للتكنولوجيات الرقمية وخدمات الأنترنت يؤدي إلى تزايد الجرائم المعلوماتية، فإننا، في رئاسة النيابة العامة، نولي لموضوع مكافحة الجريمة المعلوماتية العناية التي يستحق وذلك على ثلاثة مستويات :
يتعلق المستوى الأول بتتبع الجريمة وإيلاء عناية خاصة للظواهر الإجرامية المستفحلة أو الجديدة. حيث تعمل رئاسة النيابة العامة على تتبع الجرائم المعلوماتية ورصد مظاهر تطورها وأشكالها، حيث تم تسجيل انتشار بعض التقنيات في مجال تشفير المواقع الإلكترونية وقواعد البيانات. والذي يجسد تقنية تسمح للمجرمين بالولوج إلى المواقع الإلكترونية وقواعد البيانات وتشفيرها مع ابتزاز الضحايا. كما تم التصدي لحالات قرصنة المعلومات الخاصة بالبطائق الإلكترونية المعروفة بـ “Skiming”. والتي تستعمل لقرصنة الأرقام السرية لبطائق بنكية، مما يمكن من الاحتيال وسرقة أموال أصحابها. إضافة إلى جرائم الابتزاز عن طريق الأنترنت من خلال استعمال تكنولوجيا المعلوميات، وتهديد الأشخاص بنشر أمور مشينة والمساس بحقهم في الصورة وفي الحياة الخاصة. حيث حركت النيابة العامة، برسم سنة 2019، 289 متابعة من أجل جرائم ذات صلة بهذا الموضوع، بالإضافة إلى 241 متابعة أخرى في جرائم تتعلق بالمس بالحياة الخاصة والحق في الصورة.
ويتعلق المستوى الثاني بتعزيز قدرات النيابة العامة للتصدي لهذه الجرائم. إذ بالنظر إلى خصوصية وأهمية البحث في الجرائم المعلوماتية، وإلى صعوبة جمع الأدلة الرقمية المرتبطة بها، فقد حرصت رئاسة النيابة العامة على مشاركة قضاة النيابة العامة الذين تم تعيينهم كنقط ارتكاز، في ندوات ودورات تكوينية بالمغرب والخارج حول الجرائم المعلوماتية والدليل الرقمي بالتعاون مع شركاء دوليين.
بينما يهم المستوى الثالث الذي تشتغل عليه رئاسة النيابة العامة الوفاء بالتزامات المملكة المغربية في مجال التصدي للإجرام السيبراني. فبعد المصادقة على اتفاقية بودابست للجرائم المعلوماتية ودخولها حيز النفاذ ابتداء من فاتح أكتوبر 2018، توصلت المملكة المغربية بطلبات ترمي إلى حفظ بيانات الكمبيوتر المخزنة في إطار شبكة 24/7 المحدثة من قبل الاتفاقية المذكورة. وتم التنسيق مع النيابات العامة المختصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة قصد ضمان تنفيذها. كما تم إحداث شبكة من قضاة النيابة العامة للوفاء بالتزامات المملكة الدولية، في إطار شبكة 7/24 التي تقضي اعتماد ديمومة وطنية على مدار اليوم طيلة أيام السنة (24 ساعة/ 24 ساعة وسبعة أيام في الأسبوع)، للقيام بمهام التعاون القضائي الدولي وفاء بالتزامات المملكة المترتبة عن المصادقة على الاتفاقية المذكورة.
حضرات السيدات والسادة؛
في الوقت الذي أشكر فيه السيد وزير الدولة على دعوته الكريمة لرئاسة النيابة العامة للمشاركة في أشغال هذه الندوة الهامة، وفي ختام هذه الكلمة لا بد من التأكيد، مرة أخرى، على أن التحدي الأساسي الذي نواجهه اليوم يتعلق بكيفية تأمين الاستعمال الأمثل للتكنولوجيات الرقمية بما يسمح في نفس الوقت، بمواصلة مساهمتها في النهوض بحقوق الإنسان من جهة والتصدي لجميع أشكال الاستخدامات السيئة التي من شأنها أن تؤدي أو تساهم في حدوث انتهاكات لتلك الحقوق من جهة ثانية، وهو الأمر الذي لن يتم دون توفير الموارد التقنية والقانونية اللازمة لحماية حقوق الإنسان في سياق التكنولوجيات الرقمية. وهو الأمر الذي ستنكب هذه الندوة على مناقشته ولعلها تسهم في إيجاد أجوبة فعالة لإكراهاته. ولا يسعني سوى أن أتمنى لجمعكم هذا التوفيق والسداد.