سياستان في التعامل مع الهبة الشعبية
الحرية: معتصم حمادة
سلوك السلطة في التعامل مع الهبة الشعبية ينذر بمخاطر وطنية جسيمة، والكرة الآن لحسم الموقف باتت في ملعب قواعد حركة فتح.
■ تحت جسر الهبة الشعبية تجري مياه كثيرة. بعضها بشكل هادر وملحوظ، وبعضها الآخر بشكل هادئ، لا يمكن ملاحظته إلا إذا نزلنا إلى مجرى النهر وغصنا في مياهه، وسبرنا أغواره. ومتابعة الأسبوع الماضي، لمجرى نهر الهبة الشعبية في محطاتها المختلفة أومأت إلينا بسلسلة من الملاحظات المهمة.
• فالهبة لم تعد تقتصر على عمليات الطعن التي يمارسها شبان وشابات فلسطينيون ضد جنود الاحتلال، أو ميليشيا المستوطنين. هذه العمليات، وعلى أهميتها، كعنوان رئيسي من عناوين المقاومة الشعبية الفلسطينية، وكعنوان من عناوين حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن سيادته وكرامته الوطنية، بدأت ترافقها أعمال أكثر اتساعاً، تمثلت بنزول مئات الطلبة من جامعة بيرزيت، للانخراط في الحراك الشعبي، والاحتجاج على الاحتلال والاستيطان. والمطالبة برحيلهما، وإطلاق سراح الأرض الفلسطينية.
هذه الخطوة، في الشهر الثالث للهبة الشعبية، إن كانت تفيد عن شيء، فهي تفيد أن العفوية بدأت تنتقل إلى النشاط المنظم، يقف خلفه مجلس طلبة جامعة بيرزيت.
وهذا ما يفتح الباب لباقي مجالس الطلبة في الجامعات الفلسطينية، لتحذو حذو جامعة بيرزيت، في خطة نضال، تجمع بين الحفاظ على العام الدراسي، صوناً لمصالح الطلبة، والانخراط، في الوقت نفسه، في الأعمال الصدامية ضد قوات الاحتلال وميليشيا المستوطنين.
• كذلك انتقل العمل المنظم إلى صفوف الفصائل الفلسطينية، التي حزمت أمرها وحسمته، وقررت هي الأخرى أن تنخرط في الهبة، على طريق تحويلها من هبة شعبية عفوية فجرها بضعة عشرات من الشباب المقدامين، إلى انتفاضة شعبية شاملة، تتنوع أشكال تحركها، وتطور أساليبها وترسم لنفسها شعارات سياسية واضحة المعالم، وأهدافاً يعتبر بلوغها وتحقيقها هو الهدف الحقيقي لأي تحرك ضد الاحتلال.
وهذه خطوة تشكل انعطافة في مسار الهبة الشعبية، يجب تعميقها من خلال مواصلة السير في هذا الاتجاه رغم كل العقبات التي يمكن أن تضاف هذا التحرك.
• بالمقابل علينا أن نلاحظ أن الانخراط الفصائلي في الهبة، بقرارات سياسية واضحة، اقتصر على الجبهتين الديمقراطية والشعبية، وحزب الشعب، وحركة فدا، والمبادرة الوطنية. غابت عنه حركة فتح، التي مازال قرارها معروفاً، في عدم الانخراط في الهبة، نزولاً عند قرار الرئيس عباس. كما غابت عنه باقي فصائل م.ت.ف. التي تربطها بالسلطة علاقات تبعية معروفة، لها ثمنها المكشوف والمعروف للجميع.
* * *
في السياق نفسه، مازال مكشوفاً للجميع أن السلطة الفلسطينية، تعيش حالة انتظارية، ولم تقدم على ما يجب أن تقدم عليه من خطوات لتعزيز الهبة ودعمها وتطويرها بل انتقلت السلطة من موقع المتردد، إلى موقع من يزرع العوائق في طريق الهبة.
فقوات الأمن الوطني التابعة للسلطة، نزلت إلى الشارع، لا لدعم الهبة، بل لردعها وقمعها. فعطلت مرة، مسيرة طلبة جامعة بيرزيت، ومنعتها من الوصول إلى مستوطنة بيت إيل، مما تسبب بصدام بين الطلبة وعناصر الجهاز الأمني الفلسطيني.
كذلك نزلت قوات الأمن الوطني إلى الشارع لتقمع مرة أخرى مسيرة الفصائل، ولمنعها من الوصول هي الأخرى إلى مستوطنة بيت إيل.
في هاتين الخطوتين إشارة شديدة الخطورة، أولاً لأن السلطة بذلك تضع الأجهزة الأمنية في مواجهة الحالة الشعبية، وتفتح الباب للفتنة الداخلية، وتشرذم الحالة الوطنية الفلسطينية، وتلتزم اتفاقات التنسيق الأمني، بدلاً من أن تلتزم قرارات المجلس المركزي، وأن تحترم إرادة الشعب الفلسطيني، وأن تنحاز إلى جانبه في مواجهة الاحتلال والاستيطان.
ترافقت هذه الإجراءات الناشزة والنافرة والخطيرة مع معلومات ترددت في رام الله، تقول إن السلطة تبلغت من واشنطن سلسلة «تعليمات» طلبت فيها إليها الالتزام بها.
• أولاً التوقف عن التلويح بوقف العمل بإتفاق أوسلو، والاتفاقات الموقعة مع سلطات الاحتلال. لأن هذا معناه تحريض الحالة الشعبية الفلسطينية.
• وقف الإجراءات والتحضيرات الهادفة إلى وقف التنسيق الأمني ومقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي. وقف التنسيق الأمني خط أحمر، ومقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي هي الأخرى خط أحمر، ممنوع الاقتراب منهما.
• مغادرة سياسة التفرج على الحالة الشعبية، وتكليف الأجهزة الأمنية الفلسطينية بتشكيل سد بشري يمنع المتظاهرين من الوصول إلى مواقع الجيش الإسرائيلي وإلى حدود المستوطنات. على الأجهزة الأمنية محاصرة الهبة الشعبية وخنقها تدريجياً باعتبارها إرهاباً تتحمل السلطة الفلسطينية مسؤولية تطويقه ووضع حد له.
• تكثيف التعاون الاستخباراتي مع سلطات الاحتلال ضد الناشطين الفلسطينيين وإحباط أعمالهم «الإرهابية».
• الضغط على فصائل م.ت.ف، لمنعها من الانخراط في الهبة الشعبية.
* * *
ممارسات السلطة، ميدانياً، تكشف صحة ما تتداوله رام الله من معلومات حول رسائل أميركية لتطويق الهبة الشعبية. وما يزيد الأمر تأكيداً هو امتناع السلطة الفلسطينية، حتى الآن، عن اتخاذ قرار لصالح الهبة، واستجابتها بالمقابل للضغوط الأميركية.
إذ كان يفترض، في الأيام العشرة الماضية أن يوقع الرئيس عباس قراره بوقف التنسيق الأمني، ومقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي، وأن يبلغ بذلك الحكومة الفلسطينية لاتخاذ الترتيبات اللازمة لتنفيذ القرارات.
كما كان يفترض أن يوقع رسائل، توجه إلى العواصم المسماة دولية، وعواصم الدول الصديقة والشقيقة والأمين العام للأمم المتحدة، لتبليغ هؤلاء جميعاً بقرار السلطة الفلسطينية، وأسباب اتخاذ مثل هذا القرار، وتحميل المجتمع الدولي مسؤولية ما سوف تؤول إليه الأوضاع، في ظل الحالة الجديدة، التي سوف ترسو عندها الأمور بعد تنفيذ قرارات المجلس المركزي، التي أشبعتها اللجنة السياسية دراسة، والتي أشبعتها اللجنة التنفيذية مراجعة.
الرئيس عباس، وحتى إشعار آخر، أجّل توقيع هذه القرارات، وتوقيع الرسائل، وألغى كل الخطوات التي كانت موضع إجماع وطني في اللجنة التنفيذية. وتفرد بالقرار، متجاوزاً الهيئات التشريعية والتنفيذية، وإرادة الشارع. وكما أثبتت الوقائع، وبدلاً من الذهاب نحو تنفيذ قرارات المجلس المركزي واللجنة التنفيذية، انكفأ إلى الخلف، ليستجيب للرسائل والضغوط الأميركية. بتكليف الأجهزة الأمنية محاصرة الهبة وخنقها بالأساليب المختلفة.
أمين سر اللجنة التنفيذية صائب عريقات اعترف أن الرئيس عباس ارتد عن توقيع مراسيم تنفيذ قرارات المجلس المركزي والرسائل إلى عواصم العالم بالسياسة الجديدة لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية. عريقات ادعى أن الأمور مازالت «قيد الدرس». علماً أن القرارات اتخذت في المجلس المركزي في مطلع آذار (مارس) 2015. ودرستها اللجنة السياسية وصادقت اللجنة التنفيذية على دراسات اللجنة السياسية [أي آليات التنفيذ وردود الفعل الإسرائيلية المحتملة وكيفية الرد عليها]، في مطلع شهر 11/2015. عريقات رفض، في السياق نفسه، أن يحدد سقفاً زمنياً لإنجاز دراسة القرارات وردود الفعل عليها والخطط البديلة. كما رفض أن يحدد موعداً زمنياً واضحاً للبدء بالتنفيذ.
هذا كله يوضح، دون أي غموض، أن الحالة الفلسطينية في الوقت الراهن، أصبحت تيارين. تيار انحاز إلى إرادة الشارع وإرادة الهبة الشعبية، وبدأ يعمل بقراره «تطوير الهبة نحو انتفاضة شعبية شاملة»، بكل ما هذه الانتفاضة من مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وغيرها. وبين تيار مازال يرهن سياسته بإرادة الولايات المتحدة، ومازال يراهن على عملية تفاوضية نفقت منذ زمن طويل. مازال يرتعد أمام تطور الحالة الشعبية، أصاب خطابه تلعثم واضح، وسياساته خلط وفوضى تهدد مصالح الحالة الوطنية الفلسطينية.
فهل يستمر هذا الانقسام السياسي، حول الموقف من الهبة الشعبية ومستقبلها. أم أن قاعدة حركة فتح سوف تتحمل مسؤولياتها إلى جانب باقي إطراف الحالة الشعبية، لإغلاق ملفات الرهان على الحلول الأميركية لصالح الرهان على الحل الوطني الذي ترفع رايته الهبة الشعبية ■